عندما نتحدث عن علاقة الدراما بالجمهور فنحن نتناول أحد أركان العملية الاتصالية، بين مرسل ورسالة ومستقبل، تلك الممارسة المحملة بمضامين إعلامية وإبداعية مع امتياز خاص بها وهو الإقبال الطوعي الذي لايتوفر لكثير من الأشياء التي أصبحنا مرغمين عليها كمتلقين بالذات، وفي الأخبار والإعلانات وسائر الأشكال الإعلامية خير مثال على اقتحام حياتنا والوصول إلينا لتلقيها عنوة كجمهور لم يكن لدينا خيار في استقبالها.
“إن أصل لفظة (جمهور) في اللغة اللاتينية (Publicus) ومعناها مجموعة المشاهدين والمستمعين لأي عرض فني، سواء في الفنون الدرامية أو التشكيلية أو الموسيقية.
والجمهور – مهما كانت شاكلته واعياً أم غير واع، مثقفاً كان أم متخلفاً – هو الحكم الحقيقي والفعلي على مختلف الانتاجات الفنية في اي فن من الفنون”.[1]
فالدراما بفنونها على (المسرح والسينما والتلفاز والإذاعة) لها خصوصية بانجذاب وترقب الناس لجديدها لما تعكسه من واقع الإنسان ومحاكاة للحياة وما تقدمه من تسلية ذات مذاق مختلف عن غيرها.
هذا ما وطّد العلاقة بين الدراما كمنتَج والجمهور كمتلقي أومستهلك بلغة السوق، لذلك نرى لها تأثيرا على الفرد والمجتمع – وأنا مع هذا الرأي بشدة- حيث تعمل الدراما على غرس الأفكار وتعزيز القيم بحسب مستوى الوعي والمسؤولية المجتمعية التي يحملها صناع الدراما على عاتقهم، ومنها مانراه في مراعاة المصداقية والموضوعية والموازنة بين احتياجات الفرد الفكرية والترفيهية.
هذا جعل “الدراما شديدة الأهمية في حياة الإنسان المعاصر، وباتت واحدة من الوسائل الأساسية لتوصيل الأفكار والمعلومات وواحدة من مناهج التفكير المؤثرة في سلوك الأفراد والجماعات، وذلك من خلال ما تعرضه من نماذج يشكل الأفراد على نهجها هويتهم ومثلهم، بحيث أصبحت جزءا من الخيال الجمعي للجماهير”.[2]
إننا ياسادة عندما نصنع مسرحية أو فلما أو مسلسل فنحن نصافح هذا المتسمر امامنا على مقعده، ناخذه على عالم جديد مختلف، ننشد من خلال هذا التماهي نيل إعجابه ورصد اندهاشه، وينشد هو احترام ثقافته وأفكاره، وإمتاعه بسحر الفن وجمال التقنيات الحديثة.
وربما يحتاج فئة من المتلقين دغدغة العواطف وآخرين يبحثون عن إثراء وجودهم في هذه الحياة بالأسئلة العميقة، وكثير يبحث عن الضحك الذي تكلس في صدره واكتنزته الهموم اليومية بداخله.
“هناك حالة حياتية معينة في نص أي قطعة فنحن نقارن حياتنا بالحياة في المشهد ونضع أنفسنا في مكانهم ونفكر فيما سنفعله لذا فإن الدراما تؤثر على الحياة بشكل عام وطريقة تفكير كل شخص وتشجع كل إنسان على التعلم من التجارب والمبادئ”.[3]
إن الدراما صناعة الجمال، وتجارة الإبداع، وسوق للملهمين والقدوات ولذلك يصبح الإفراط في هذه الصناعة تفريطا في قيمة الفكر، واستعباد النجم، والبحث عن المال هدف أهم من إعجاب الجمهور.
لقد تمادت بعض الإنتاجات في استغلال الشهرة، والمواضيع الحساسة، بل وأصبح لإثارة الجدل مصطلح (التسويق السلبي) وهي سياسة تبناها بعض المنتجين لينال جائزة الشهرة بالشتم.
“لا أنكر أن هناك من الكتاب والمخرجين من يسعى لاستثمار القبح في المجتمع من أجل أن يحقق رواجا مزعوما على الشاشة كل هذا أرصده، لكن لا أرى أن الحل ليس بتطبيق قواعد المنع والتضييق على الأفكار وغلق أبواب وشبابيك التعبير. الـ«يوتيوب» أسقط هذا السلاح تماما”.[4]
ولأن الدراما جزء من المنظومة الإعلامية في المجتمعات، فإنها بذلك قوة ناعمة تغزو بها المجتمعات بعضها لفرض ثقافتها وترويج سياحتها وصناعاتها ولغتها وأسماء النجوم التي تتصدر أحيانا سجلات المواليد.. فإننا نجدها اليوم تستعين بمواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي ليس لترويج الدراما بل لجذب الجمهور بشكل لحظي يومي مستمر، لكن النجوم والمنتجين وغيرهم لم يتوقعوا أن طرح الدراما على طاولة العالم الافتراضي سيكون طريق إلى جحيم بلاعودة.
“فللرأي العام على التواصل الاجتماعي سلطته بعد ما زاد نفوذه، ليطرح الأمر الواقع بدوره سؤالاً عما إذا كانت قد أصبحت أكثر قسوة من الرقابة الرسمية نفسها”.[5] ففي حين بدأت القيود الرقابية في الانفتاح عالميا وابتكرت السياسات تصنيفات عمرية وأصبح سقف الفن مرتفعا ومساحته أكثر حرية، جاء الجمهور ليفرض قواعد جديدة مرتبطة بعقليته وثقافته ورغباته وذائقته التي لايمكن تأطيرها في صورة واحدة، ونتذكر أعمالا واجهت نقدا لاذعا وجلدا متطرفا في التواصل الاجتماعي من حسابات لأفراد .. فرد ووراءه جيش، مؤهله الوحيد في علم النقد بأنه جمهور/متلقي.
لقد سادت التفاهة وأصبح الإنتاج الدرامي سطحي ويبيع النجم على الملصق ويأتي الجمهور بعشم “السلفي” وتوثيق اللحظة كما أصبحنا نفعل في المقاهي.
أصبحت الأفلام لتمرير أفكار شاذة، والبساط الأحمر مربح لمصممي الأزياء وماركات ” Outfit” أكثر من الفنان، والمسرحيات “مسلوقة” والمسلسلات غثاء سيل.
لذلك من الطبيعي أن يحبط الجمهور وهو يبحث في الإنتاج العربي عن عمل مميز، يحترمه ويسليه ويضاف إلى قائمة الأعمال العظيمة عالميا، ومن المنطقي ألا يثق المواطن العربي في إنتاج مواطنيه ويهرع للإنتاج الغريب الذي وإن كان لا يشبهه إلا أنه يحقق الموازنة بين الحكاية المشوقة والرؤية البصرية المتقدمة، هذا الغضب الذي يتراكم في نفوس الجماهير العربية تجاه إنتاجات ضعيفة على المنصات والمسارح والشاشات جعله يواجهه بالقسوة ذاتها، ومع كل عمل جديد تبدأ الحرب بين المطبلين الذين غالبا ينتمون إلى المجال الفني لتعزيز جهد أصدقاءهم، وبين المتلقين الذين أصبحوا يرفضون استقبال أي عمل فني أقل من تطلعاتهم. وتعود الأسطوانة البالية “الجمهور عاوز كده”
“لا، وبالصوت العالي.. الجمهور مش عاوز كده. الجمهور لا يريد أن يرى نماذج تافهة يعتقد أنهم نجوم فتتلبسهم النرجسية ويرون أنفسهم ملوكا، فليس كل من يمتلك ملايين المتابعين على تويتر يمتلك مكانة وقيمة. الجمهور «عاوز» فناً راقياً وبرامج هادفة وتسلية وفرحاً أيضاً.. لكن كله ضمن الذوق والأخلاق والحس السليم.
لا وألف لا.. الجمهور لا يريد أن يغير المحطة، بل يريد أن يصحح مسارها. وقد فعل بجدارة.[6]
لقد صعق الفنان من تنمر الجمهور، بقدر إحباط المشاهد، لدرجة أن الفنانين المخضرمين لاحظوا خطورة هذا الجمهور وذكاءه الحاد، والقليل استوعب بأن الانفتاح الذي أتاحته المنصات والعولمة التي استطاعت جعل العالم قرية واحدة، صنعت على اليوتيوب قنوات لمراجعة الأفلام والمسلسلات، وعزف الكثير من الجماهير عن حضور المسارح وكتبوا نهاية بعض النجوم.
“وما يؤكد على كلامي، التصريحات الصاروخية لبعض المخرجين في الآونة الأخيرة والتي تضرب كل المبادئ والقيم عرض البحر، فهم مستنكرين مستهجنين مستغربين لحالة رفض الجمهور. مشددين إن لم يعجبه ما يتم عرضه فلابد من البحث والتدقيق مرة ثانية في طبيعة تفكيره .. فمن المؤلم أن يتم استخدام هذا الفن سواء اليوم أو الأمس أو غداً بأسلوب يترجم الانحطاط الأخلاقي والتدني الفكري والممارسات غير المشروعة”.[7]
يقول طه حسين الأديب الكبير “إن الناقد هو “مستشار” القارئ، نحن والمبدعون نقدم أعمالنا إلى القارئ، وبالتالي ليس صحيحاً ما هو شائع بأن الناقد يكتب لكي يستفيد النجوم من نصائحهم”[8] ويقول السينارست العبقري وحيد حامد “إن الدراما تلعب دوراً مهماً في تشكيل وعي المجتمع، سواء بالسلب أم بالإيجاب، فقد تغرس لدى المشاهد قيماً سلبية مثل الكراهية والفساد واللامبالاة والاضطهاد، أو العكس من خلال تحمسه وتقوية مشاعر العمل وحب الوطن وعرض النماذج الإيجابية في المجتمع و ملامسة الناس في حياتهم اليومية وتتفاعل مع عواطفهم ومشكلاتهم هي وحدها التي تنجح في اجتذاب المشاهدين إليها، وتكون دراما صادقة[9] ويقول المخرج محمد فاضل “المضمون ضعيف في الكثير من الأعمال الدرامية التي قدمت خلال السنوات الماضية، وانعزالها عن واقع المجتمع.. متفقاً مع القول ان وجود عشرات القنوات الفضائية العربية أدى إلى تسابق كثير من شركات الإنتاج لحجز مساحات لأعمالها، مما جعل الدراما أشبه بعملية «سلق» للموضوعات ليس أكثر بهدف تحقيق المكسب المادي فالإعلان هو السبب المباشر والرئيسي في ذلك بحكم أن كل عمل درامي يتحول إلى مادة إعلانية، حيث يقطع كل فترة وجيزة لتقديم فقرة إعلانية بمبالغ يسيل لها اللعاب، وأصبح موسم شهر رمضان فرصة نادرة لهذه القنوات التي تشتري أكبر عدد من المسلسلات التي تكون على رأسها نجم كبير أو نجمة كبيرة وهي أسماء إذا كانت لكتّاب أو نجوم جاذبة للشركات المعلنة، وكثير من القنوات تبني ميزانياتها من الأعمال الدرامية المختلفة في رمضان عبر الإعلان، وتعيش عليها العام كله”.[10]
وبناء على ما سبق أجد أن عبء المصالحة بين طرفي الصراع يقع على الفنان والمنتج، المطالب بإرضاء الجمهور وممارسة اللعبة حسب قواعدها السليمة، وألا تنهار المؤسسة الإنتاجية الإبداعية تحت قدم الرأسمالية، وألا يكون المعيار الوحيد هو (rating) فنسبة المشاهدة وهي عملية معقدة لتحديد نجاح العمل جماهيريا، قد نتقبل أن يكون لدينا برامج استهلاكية تسعى لتحقيق هذا الهدف التجاري البحت، لكن صدقوني الدراما لا تستحق ذلك. بل لا تحتمله.
المسرح الذي فقد جمهوره، والسينما التي هجرها الناس، والمنصات التي تعج بأفضل الأعمال الأجنبية لتزاحم إنتاجاتنا العربية المتواضعة، مبرر كاف لقسوة الجمهور ودراما الجلد التي نتابعها أكثر من الأعمال نفسها، وهناك من حقق شهرة بفضل انتقاده للأعمال الضعيفة والبالية، ويستحق ذلك.
ولن تنهض الدراما على يد الجمهور ولا بأموال المنتجات الرمضانية، إنها أداة مهمة ومؤثرة وبحاجة لخطة إعلامية وطنية واضحة لاستلهام قصص العالم العربي المليء بالدهشة، بدل التسطيح والتهريج، وتكريس المبدعين المميزين بدل الفاشنستات وأشباههم، الأدب والفن رديفان لصناعة إبداع يغزو العالم ليرونا كما نريد ونحن مؤهلون لنصبح أفضل ممن كان يبهرنا إنتاجهم.
[1] جمهور المسرح – ا . د كمال الدين عيد = جريدة الجزيرة – Sunday 11th July, 1999 – http://www.al-jazirah.com/1999/19990711/cu14.htm
[2] الدراما والواقع – مخلوف بوكروح – المجلة الجزائرية للاتصال – – Volume 10, Numéro 19, Pages 13-30 2005-01-01
[3] Benefits and functions of drama in society Read more: https://www.legit.ng/1219572-benefits-functions-drama-society.html – Monday, March 04, 2019 at 8:18 PM by Adrianna Simwa Read more: https://www.legit.ng/1219572-benefits-functions-drama-society.html
[4] عنف الواقع وقسوة الدراما – طارق الشناوي – الشرق الأوسط – الاثنين – 14 شوال 1435 هـ – 11 أغسطس 2014 مـ رقم العدد [13040] https://aawsat.com/home/article/156881
[5] الجمهور العربي ينصب نفسه رقيبا على الفن – حميدة أبو هميلة أيمن الغبيوي طارق ديلواني كارين اليان ضاهر – اندبندت عربية- السبت 9 يناير 2021 14:48 https://www.independentarabia.com/node/183266/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%85%D8%B7%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AA/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D9%87%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%8A%D9%86%D8%B5%D8%A8-%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%87-%D8%B1%D9%82%D9%8A%D8%A8%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86
[6] الجمهور مش عاوز كده – دلع المفتي – جريدة القبس – ٢٣ مارس ٢٠١٦ – https://alqabas.com/article/6872
[7] المخرج عاوز كدة..! – مي عبدالعزيز – صحيفة الوطن – الثلاثاء 01 مارس 2022 01:05 – https://alwatannews.net/Opinion/article/993181/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AE%D8%B1%D8%AC-%D8%B9%D8%A7%D9%88%D8%B2-%D9%83%D8%AF%D8%A9!
[8] النقد والناقد والجمهور.. وصاية أم حرية مطلقة؟ – إيهاب سيد أحمد – العين الإخبارية – الخميس 2016/9/29 10:53 ص – أبوظبي – https://al-ain.com/article/criticism-critics-and-audiences-guardianship-or-absolute-freedom
[9] الدراما بين تشكيل وعي الجمهور وحشو خارطة البرامج – البيان – 04 أغسطس 2009 – https://www.albayan.ae/five-senses/2009-08-04-1.464081
[10] الدراما بين تشكيل وعي الجمهور وحشو خارطة البرامج – البيان – 04 أغسطس 2009 – https://www.albayan.ae/five-senses/2009-08-04-1.464081