في الزمانات أشيع عن المسرح بأنه ضد الدين والعكس، وواجه المسرح كثير من المعارك التي اضطهدت الإبداع ونالت من المسرحيين الذين كانوا كغيرهم من الفنانين والعلماء في صدامات كبيرة مع رجال الدين والمحتسبين والمتطرفين..
ففي العصور المظلمة كما تُسمى في كتب التاريخ، كانت المؤسسة الدينية الغربية في صراع مع أبي الفنون، وكانت البلاد العربية مشغولة في إرثها العبقري العظيم الشعر، والدين الإسلامي الحنيف، الذي يعد المنحة الإلهية للإنسان والتي سادت حضارتها شرقا وغربا.
ويمر الزمن بالفنون وهي محل مقاومة مؤسساتية وليست اجتماعية، حتى جاءت حقبة الاضطراب السياسي الدولي التي انتجت للعالم حروبا مدمرة وأظهرت بشاعة الإنسان ونسي البشر جمالهم ونهض الفنان حينها ليذكر العالم بإنسانيته من خلال الفنون التي قاومها الإنسان المعاصر بعد أن تحول من التطرف الديني إلى التطرف العسكري القامع للحرية.
وبما وصل إليه العالم في بدايات القرن الماضي ساهم بتحويل الفعل المسرحي من فن للتسلية والحب والجمال إلى مشهد ثوري قاس في نقده للسياسة ومهاجمة الناس وتحريضهم وتحول أيضا إلى طقس غرائبي للتحايل على الرقيب، وفي أبسط أشكاله رأيناه فن تهريجي مبتذل لمجاملة السلطة وتغييب الوعي المجتمعي ومناهضة المتدينين. إلا أني عندما أقرأ تاريخ المسرح السعودي أجده مختلفا عن غيره.
المسرح في السعودية لم يكن ذا أثر يذكر، فدولة عظيمة كالسعودية لم تعاني الاستعمار ولم تلوثها الثورات ولم تجد قيادة غريبة عنها أو دخلاء ينشرون العبث في مكونها السياسي أو الاجتماعي، فقد كانت بدتية للمسرح منذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة بعهد المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود بمعزل عن العبث العالمي الذي نال من القارات كلها تقريبا، كان بناء الإنسان السعودي وتلبية احتياجاته والبحث عن اكتفاءه الذاتي والدفاع عن مكتسباته وحفظ هويته هاجس السياسة الأبوية التي انتهجها المؤسس، وكان المسرح كمظهر ثقافي أمر مقبول من رأس الدولة واهتمام جلالة الملك حينها وأبناؤه البررة من بعده بزيارة المسارح في مؤسسات التعليم مؤشرا كافيا لسلامة العلاقة بين السياسة والمسرح في السعودية.
ولا ننكر بأن المسرح نشاط غير موروث في العرب عموما لذلك ربما واجه الكثير من المعارك وخاض عددا من الحروب مع السلطات السياسية والدينية والاجتماعية، لكن حربه مع السلطة الدينية كانت أكثر ضراوة ونتذكر ماحدث لكثير من المسرحيين العرب في بداياتهم.
لكن السعودية كانت السلطة السياسية داعمة لكثير من التجارب المسرحية الواعية على عكس السلطة الدينية التي استبقت الأحكام ونالت من محاولات كثيرة هزمت فيها المسرح
ويمكننا ان نقول بأن محاولة أحمد السباعي مشهد واضح لذلك!
وقد حظي جيلي ومن قبلي ومن جاء بعدنا بدعم الملوك والأمراء والوزراء بالتكريم والمبادرات والابتعاث والاهتمام لإنتاج المسرح وتنظيمه وتقدير مبدعيه ونجا الكثير من المسرحيين من صراع التيار الديني الذي كان يراه فنا غير مقبول ولايليق بالمسلم الكذب “التمثيل”.
ومن وجهة نظري يقف المسرح في حرب مازالت مستمرة، متعددة الجبهات، أثقلت كاهل مبدعيه وجعلته غريبا عن فنه وجمهوره، معركة مع اختلال المنظومة الإبداعية، وتعثر الفنان في آليات غريبة عليه، وضعَها خبراء في تخصصات مالية والدعاية والعلاقات العامة، وقد يكونوا من الأكثر كفاءة في تخصصاتهم لكنهم لا يدركون فقه المسرح لذلك جعلوا من آليات إنتاجه وتمويله بدعا لا تتوافق مع طبيعة ميدان الإنتاج المسرحي.
يقف المسرح ومبادراته وأنشطته ومشاريعه التي نشاهدها في التواصل الاجتماعي مع تفاعل ضئيل ليؤكد لنا أنه في عزلة “استراتيجية”عن المسرحيين المتخصصين، لأن المعوّق الرئيس لهم هو طبيعة العمل! لم يعد المسرحي قادر على الإجابة على أسئلة بسيطة مثل:
“كيف ننتج مسرحية؟ كيف نكوّن فرقة؟ كيف نحصل على دعم؟ كيف نشارك في مهرجان خارجي؟ كيف أحمي حقوقي التعاقدية؟
المشكلة تكمن في عدم الوضوح، أو ان الإجابة ليست موجودة، لماذا؟ لأن القائم على المسرح لم يتقن عمله كما يجب لتصل الخدمة والرعاية للمبدع!
ياااه .. وكأننا نعود عقودا بعد عقود لتصفير فكرة المسرح.
معركة المسرح اليوم مع الجهل به، من يجهل المسرح عدو له ولو كان يعتلي سرجه فلن يربح السباق، ومهما صفع المسرح بسياط مكانته لن يتحرك، ولو تحرك فغالبا سيفرح بالحراك ولايعلم انه مخدوع بحصان يركض عكس المضمار.
هل هذا مايحدث!
هل مسرحنا يركض عكس المضمار؟ أعتقد: نعم
عليك أن تسأل “كيف؟” لأجيبك..
عندما ننتج مسرحيات مع شركات تجارية لها نصيب الأسد من التمويل على حساب القطاع الثالث -صاحب الأولوية نظاما- فنحن لا نقدم الدعم للمسرح والمسرحيين، بل لأصحاب الشركات.
عندما يقوم أصحاب الشركات “المحددة” بتقديم أجور زهيدة للمسرحين، فنحن لا نخدم المسرح ولا المسرحيين، بل المقاولين.
مسرحنا يركض عكس المضمار، عندما نتجاهل بناء المسارح وتجهيزها ولانشجع رؤوس الأموال لخوض مجال الاستثمار في المسارح بأنواعها وأحجامها ليكون العمل بالتوازي مع ماتبذله الدولة مشكورة بصرف مبالغ طائلة في إرسال المواهب الجديدة للتعلم في الخارج، وتنشيط المسرح المدرسي والدعوة للحصول على رخص أو تأسيس مجموعات من الموهوبين والهواة، لأنه لا يصح أن نجد بعد هذا كله أننا بلا مسارح ليعملوا عليها!
نحن لن نحقق شيئا مؤثرا والمسرح الوطني مغلق!
لن يصهل مسرحنا في منصات التتويج كما كان يفعل في السابق لأن معظم الفرق المميزة غير مرخصة اليوم.
لايوجد حتى الآن سياسات وتشريعات للممارسة المسرحية والإنتاج المسرحي.
من الجهة المرجعية لتنظيم العمل المسرحي؟
وهذا الغيض من الفيض، هو سبب بديهي لعزوف المستثمر، والجمهور، وليس كما يقال “النص المسرحي” كما يزعم البعض ممن لا يعرفون كيف تحيي المسرح.
لذلك أعتقد بأن أشرس معارك المسرح هي مع الجهل، الجاهل الذي يعمل في المسرح ويتدخل في تنظيمه هو الخصم الحقيقي لتطور النشاط المسرحي، لأنه لم ينجح في تخصصه، لكنه متمكن من تنميق الكلام وصفصفته في اللقاءات والمراسلات والتقارير ويتقن إبراز الأرقام وإخفاء الأسماء التي ورائها، ولأن المسرح مساحة مسالمة تقبل الجميع وصورة للحياة ومجال يقوم على العمل الجماعي فهو أكثر مكان يناسب الطفيليات لتنمو وتتضخم وعندما تتعفن يستطيع بسهولة أن يقضي على صحة المكان والعاملين فيه.
تنويه، المسرح كقوة ناعمة يبدأ بالاستثمار في المبدع الناجح والمتميز لخلق بيئة عامل ومساحة جيدة تشجع الإنتاج وتؤسس لمخرجات تدعم الاستثمار التجاري والسياحي لأن السياح يتوقعون مع هذه النهضة مسرح سعودي يستكشفون من خلاله قصصنا وثقافتنا.
المسرح كما أراه اليوم “أن يتحدث الجميع لبعضهم عن أنفسهم بشكل حضاري” فإن كنت مسرحيا فاصمد، واستمتع بالانتظار، حتى يصبح وقتك مناسبا للكلام، والفعل، في قصة تحبها، أمام جمهور يهتم.. وإن كنت متطفلا فإني أرجوك، اترك المسرح يثمر، أو ابحث عن شيء آخر قد تنجح فيه! ليصبح وقت انتظارنا أقل ويكون المجال متسعا لتحليق من يستحق.
تحديث؛ ٢٧مايو٢٠٢٣ يمكنك الاطلاع على ص١١٦ التي نشرت وثائق عن بدايات المسرح ودعم القيادة السياسية السعودية للحراك المسرحي. مجلة العربية