ياسر مدخلي

للبيع: فرقة مسرحية!

تعتبر المملكة المتحدة في الصدارة -عالميا- كأكبر دولة في الاستثمار المسرحي، وتعد اقتصاديات المسارح من أكبر مصادر الدخل لديها بالإضافة إلى كون المسرح قوة ناعمة جبارة للإنجليز من خلال الاعتزاز برموز المسرح وعراقة البنية التحتية للمسارح، وشركاتها تسابق العالم في براءات الاختراع لتقنيات المسرح المتجددة، وتضفي هذه الصدارة نشاطا سياحيا متزايد على مختلف مدن المملكة المتحدة التي تستقطب آلاف العروض سنويا وتنتج فيها عشرات العروض المقيمة.. هذا كله يعطي أرقاما كبيرة في الدخل تتجاوز 10 مليارات جنيه سنويا وآلاف الوظائف ومتوسط دخل عالي جدا.
وفي أمريكا تُعفى المنظمات المسرحية من الضرائب لتشجيعها على الاستمرار وتنمية أعمالها وأصولها التي تقدر بالملايين وتبلغ إيراداتها مليارات الدولارات، وتملك -برغم انها دولة حديثة- مسارح بأصول مليارية ومبانٍ مسجلة كمواقع تراث وطني.
مسرح شيكاغو التاريخي 1921م
وكما ذكرت د.ملحة عبدالله آل مزهر في مقالها المسرح والاقتصاد “ذا ما رجعنا للدور الاقتصادي في نهضة المسرح عند اليونان لوجدنا دور الأرخونات في تمويل ورعاية الفرق المسرحية كان كبيراً. والأرخونات حينها هم المسؤولون الإداريون الرئيسيون التسعة في أثينا القديمة بعد عام 683 ق.م … وإذا تأملنا أيضاً ازدهار المسرح الإليزابيثي (1558-1625) لوجدناه ينهض بما حققته لندن آنذاك من رواج اقتصادي لما لذلك الرواج الاقتصادي من استقرار ورواج كمركز تجاري عالمي إبان حكم الملكة اليزابيث الأولى وما حققته أيضاً من استقرار وسلام”
وبحسب اليونسكو التي تعمل على تعزز مقومات التنمية المستدامة في دول الأمم المتحدة فقد “حققت التجارة العالمية للسلع والخدمات الإبداعية رقما قياسيا بلغ 624 مليار دولار أميركي في عام 2011، وازدادت أكثر من الضعف بين عام 2002 وعام 2011. وفي الوقت عينه، يتمتع الإبداع والثقافة أيضا بقيمة كبرى غير نقدية تُسهم في التنمية الاجتماعية الشاملة والحوار والتفاهم بين الشعوب.”
وتقول أيرينا بوكوفا “في حين يخلق الاقتصاد الإبداعي الوظائف، يُسهم في الرخاء الشامل للمجتمعات، وفي تعزيز احترام الأفراد لذاتهم وفي تحسين نوعية حياتهم، وبالتالي في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، ومن الضروري أن يقر المجتمع الدولي بأهمية وقوة القطاعين الثقافي والإبداعي بوصفهما محرّكين للتنمية“
وهذا ماجعل اليونسكو تقدّم 900 ألف دولار أمريكي من صندوقها الدولي للتنوع الثقافي لدعم 11 مشروعاً يدفع بعجلة الاقتصاد الإبداعي العالمي في عام 2023
Palais Garnier
هذه المقدمة اللطيفة تدفعني لسؤال عريض وملُِح: كيف هو وضع الاقتصاد للمسرح السعودي ؟
أعتذر لنفسي -كمسرحي- عن الإجابة لأنها ستكون جارحة! ربما!! غالبا.
.
دعني أتحدث إليك عزيزي القارئ بشكل عام.. إن اقتصاديات الثقافة في كثير من الدول تمر بأزمة، هذه الأزمة المتفاقمة والمستعصية على الحلول المطروحة بين دول غنية وفقيرة هي نتيجة “طبيعية” فالتواصل بين الجهة المانحة و المبدع والجمهور ليس ناضجا حتى الآن، والعلاقة بين الأركان الثلاثة غير صحي، لوجود طرف رابع “منتفع” يتسلق على “المبدع” -الحلقة الأضعف- ليفرض أثرا سلبيا قويا على هذه العلاقة التي أصبحت مسمومة.
فأسلوب “المقاولات” الذي أثبت فشله، ويصم الفنون بعار التردي والابتذال في عصور معينة مرت فيها السينما والمسرح بظروف سيئة، ومايزيد الأمر سوءا أن “النجاح المؤقت” خادع ولا يمثل الفكر الاستراتيجي الذي ترتكز عليه الخطط لتحقيق المستهدفات.
المقزز ان من ينجح في كسب الأموال وانتهاز الفرصة هو “المقاول” الذي يلهث وراءه كل يائس ومفلس وفاقد الأهلية وذلك الفنان المشرد والباحث عن لقمة أو ضوء والمستعد لتقديم التنازلات، وتباع لصالحه فرقة مسرحية كان من الممكن ان تحظى بالدعم بدلا من الاستغلال الذي يقدّم لها في ثوب الفرصة وقد سئمَتْ وسئم أعضاؤها لعب دور المتفرج والمتدرب والمستفيد والعميل والضيف والمتحدث في فعاليات فقاعية ومشاريع مؤقتة وبرامج عابرة معظمها مضيعة للمال والجهد والوقت… وقلوبهم معلقة بأمل الصعود على المسرح وتقديم إبداعها وفكرها.
لاينكر عاقل أن الفرق المسرحية السعودية قد حققت حضورا مميزا في الثمانينات والتسعينات والعقد الأول من الألفية، لكنها الآن تحتضر، والأسماء التي تصدرت الدراسات والأبحاث الاكاديمية العربية والأجنبية تغرق في صمت، والمنظمات (الأندية والجمعيات) التي نشأت حديثا في السنوات الأخيرة مكتوفة الأيدي تقف على ناصية المجهول، ويعيش المسرحيون غربة كئيبة ومحبطة، ليس فقط لأنهم صنعوا فجوة مع الجمهور من قبل، بل لأن الواقع الذي فرض عليهم لا يشجعهم لإنتاج مسرحي إبداعي طموح فآليات الدعم غريبة وبلغة جديدة والجهات الممكِّنة لاعلاقة لها بالميدان ومعيار الكفاءة متباين!! هذا غير الحضوة التي تتمتع بها بعض الأسماء..
صورة للأحد ممثلي المسرح بمدينة الطائف – من تقرير مركز السعودية التابع للهيئة العالمية للمسرح
إن معيار كفاءة المسرح في أي مجتمع يعتمد على عدة أمور أذكرها حسب الأهمية:
• أنظمة ولاوائح لتنظيم الممارسة المسرحية الإبداعية تكفل حقوق المحترفين وتتيح الفرص للمواهب وتحمي مبدأ التنافس وتراعي الجودة والرقابة وحرية الإبداع وتؤطر الإنتاج بانسجام مع سياسة الوطن ومتغيراته.
• حوافز للمستثمرين لخصخصة المسرح وتشجيع عوامل نهضته في البنية التحتية و الاكاديميات والمطبوعات.
• إقامة الأنشطة الداعمة للإنتاج مثل الإعلام المتخصص بالمسرح والمهرجانات والمسابقات.
• الاعتزاز بالمتميزين وتمكينهم بآليات وممكنات منسجمة مع الميدان المسرحي وظروفه، وتكوين قوة ناعمة من خلال إبراز الرموز والرواد وتوثيق الإرث الذي يرفد الأدب والفن السعودي بمنتج قابل للتصدير العالمي وجاذب للمواطنين والمقيمين وللسياح، ودعم الأعمال المستلهمة من الموروث الوطني الحضاري والإبداعي الذي يعتبر مادة ملهمة للمؤلفين والمخرجين والسينوغرافيين والجمهور.
• الإنتاج المسرحي المقيم بعروض طويلة المدى والمسرح المتجول، ومسرح المناسبات ذلك الإنتاج الذي يوازن بين الأشكال الفنية ويلبي كل الأذواق كي لا يطغى التسطيح أو الإغراق في الرمزية على مضامين المسرح المحلي كما يحدث في دول كثيرة.
ياعزيزي .. تتكرر عبارة ” المسرح محارَب” وهذه فكرة نشأت في مجتمعات مضطربة مع أنظمة قمعية، وصدّرها فنانون بدراما ثورية ليس لها مكان اليوم في واقع الحال، والمسرح ليس أداة للتحريض والتصادم، لقد ولى ذلك الزمن وولت أفكاره، والحمد لله ليست لدينا أبدا وقد أوضحت في مقالي السابق ضد المسرح بشكل أكثر تفصيلا. لاسيما ونحن نعيش في زمن يعد فيه المسرح واحدا من أعمدة الثقافة وأصبحت الثقافة ركنا ركينا في برنامج التحول الوطني ورافدا مهما لتحقيق تنوع مصادر الدخل في الرؤية السعودية.
المسرح ليس في حرب، لكن للمسرح عدو تافه، ستعرفه حتما إن كنت تنتمي لعالم الإنتاج الثقافي والإبداعي!
إنه الجهل .. عدو المسرح الوحيد، عدو ضعيف هزيل، ويتمثل في الدخلاء الأغبياء المنتفعين والفاسدين، لكن الجهل يصبح قويًّا عندما يكوّن جيشًا من المقاولين!
مشاركتي في المؤتمر العالمي للمسرح والفنون الأدائية بمدينة باكو 2013
فنحن نشهد مفارقة غير منطقية في مسرحنا، لانملك مسارح لكننا نملك المال! ولانملك أكاديميات لكن لدينا أساتذة مسرحيين مخضرمين، لانملك الإعلام المسرحي لكن إعلامنا جبار فكل مواطن اليوم رجل أمن وإعلام لهذا الوطن المجيد، والمسرح السعودي -حتى اللحظة- لم يأخذ نصيبه المستحق من هذه النهضة، وهو أحق وأقدر، والأمل الذي يرافق المسرحيين يكبر على أكتافهم ونرفع رؤسنا فخرا ببلادنا حماها الله وقيادتنا الحكيمة التي صنعت لنا الكثير والحلم الكبير الذي نحققه في هذا الوطن يصنع لنا طموحا أكبر والسعودية العظمى تستحق مسرحا عظيما يقدم من خلاله السعوديون دورهم في ترسانة التنمية الإبداعية ليكون لنا فضاء واسع تصنعه الدهشة وتعود الفرق المسرحية تتنافس من جديد على جمهور ذوّاق وتوّاق لعروض متنوعة، ولا ننسى أن الجمهور السعودي هدف وتطلع لكل نجم عربي وعالمي.
أختم مقالي هذا وأنا أقول: نحن في حاجة ماسة لإنقاذ إرثنا المسرحي الذي رعاه وباركه مؤسس هذه البلاد منذ عشرات السنين، الإرث الإبداعي الذي لمعت من خلاله ملحة عبدالله كأستاذة وكاتبة وباحثة مهمة، الإرث الذي دفع فهد رده وأحمد الأحمري لاعتلاء منصات التكريم في معظم البلاد العربية، وجعل من سامي الجمعان عضوا مهما في منظمات دولية، وصنع بنصوص عباس الحايك حضورا طاغيا مع أبرز الفرق المسرحية العربية وكوّن بقلم إبراهيم الحارثي أخبارا تنشر نشاط المسرح السعودي في منصات ومطبوعات المسرحيين العرب وأعمالا تنافس على الجوائز وتحققها.. والقائمة تطول بالأسماء والأعمال وغير ذلك من الدراسات والأبحاث التي تناولت نصوصنا وعروضنا في المسرح السعودي .. الذي تهتم له أنت أيضا عزيزي القارئ الاهتمام البالغ الذي جعلك تكمل قراءة هذا المقال لأنك تعلم بأنه ليس من المنطقي أن تُباع فرقة مسرحية لمقاول يستغلها، مهما أرهقتها الظروف وتكالب عليها الجهلة، لأن الوقت كفيل بصناعة مجد المسرح السعودي وبالذات في أجمل السنوات التي نعيشها لمستقبل بلادنا المباركة.

شارك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top