إن مصطلح التسويق مكرر ومتداول في عالم التجارة والأعمال، لكنه في المجال الفني والثقافي -لم يستساغ- حتى الآن، بسبب نظرة المثقفين وتخوفهم من فكرة تسليع الثقافة، وهو تخوف لا أنسجم معه كثيرا ولا أحبه، بل أعتقد أن اعتماد الثقافة على الرعوية والدعم والهبات والتبرعات واحد من أسباب تقهقر المبدع ومؤسساته وضعف دوره الاجتماعي، وسبب رئيس لتهميشه، ومن جهة اخرى أجد أن مجالات الثقافة والفن والأدب تقدم منتجات مربحة وأقل تكلفة من صناعات كثيرة، بل إن مكونات الثقافة مصدر إلهام “للمستهلك” وقادرة على الارتباط بالوجدان الإنساني أكثر من المنتجات الجامدة الرائجة وذات الشعبية المتزايدة، وهذا جعل المنتَج الفارغ يسبق بخطوة ولانسمع إلا ندب ونقد التسطيح الذي يقف المتلقي لشراءه واقتناءه ومشاهدته.
يقول جوناثان ليستر “تحدث إلى الزبائن بلغتهم وعن الأشياء التي في قلوبهم”
لست هنا لأقدم درسا في التسويق، لكن من خلال خبرتي المتواضعة لربع قرن في العمل المسرحي والإعلامي والخلفية الأكاديمية العليا في البحث الاجتماعي جعلتني أبتكر “وصفة” أعمل على تطبيقها لسنوات في تسويق منتجي الثقافي وبفضل الله وجدت صدى طيب واهتمام واسع وسمعة أفخر بها وأقل مايمكنني تقديمه عرفانا لهذا التوفيق الذي منحه لي الله أن أشاركه مع الآخرين وأتمنى أن يُلهمك ويساعدك عزيزي القارئ في صناعة أسلوبك التسويقي كمنتِج للإبداع سواء في المسرح أو السينما أو الفنون البصرية والموسيقى وغيرها من الإبداعات والمهارات التي تسهم بها في منظومة القوة الناعمة.
يرتكز التسويق الثقافي على صناعة المضامين قبل الأشكال، وأعني بذلك أنه يعتمد على الفكر والتأثير واختبار التلقي وأثره قبل الاعتماد على الشكل، فالمنتجات الاستهلاكية والعلامات التجارية تهتم بالشكل وجودته على حساب الفكرة التي قد ينطوي عليها المنتج مثل الإصدارات الجديدة للهاتف والملابس والسيارات تسير في خطوط الإنتاج حسب اهتمام الزبون بالشكل واللون دون اعتبار أهميتها في حياته ومدى مناسبتها لاحتياجاته الحياتية أو العملية، لذلك تعتمد الكثير من المنتجات الرائجة على فكرة “الموضة” والتجديد في الشكل أكثر من الإضافات الخدمية المرتبطة بهم، فعدسة إضافية لاتجعلنا نفرط في جهاز مازال يؤدي دوره المطلوب، ومن المفترض ألا نندفع لاقتناء سيارة جديدة أو حذاء جديد لان لون جديد او غريب أصبح مطروحا في السوق.
في الإنتاج الثقافي ندرك بأن دهشة الفن تتعلق أكثر بمواكبته للتقنية التي تبهر المشاهد، لكن عظمته تنشأ من قدرته على ملامسة النفوس، ومن هنا جاءت الثقافة كقوة ناعمة بما تحمله من سحر وأصبحت فنون الثقافة أدوات تعطي مؤشر مهم لقوة الدول بموازاة ذخيرتها الدفاعية، وهاتان القوتان تشكل الثقل الحضاري على مر التاريخ، وجاء المال والاقتصاد ليلعب دورا مهما في خدمتها وتكريسها وإثقال وزنها.
من هنا نرى عظمة المنتج الثقافي الذي يحتاج إلى وعي تسويقي يجعله جاهزا وكفئا للتداول والجذب والاستسلام لجماله، نحتاج إلى تسويق احترافي مدروس يشبه المناورات والاستعراضات العسكرية تسويق لا يركن لأرقام المبيعات فحسب بل لديه قراءة واضحة للمكاسب الحقيقية في أرض الواقع حضاريا/عالميا، تسويق يجعل من العُلا تضاهي الأهرامات والمتحف الوطني ينافس بمحتواه المحلي متحف اللوفر، وستديوهات ومدن إعلامية تستقطب أكبر منتجي هوليوود ومسارحا تبدأ من حيث انتهت برودواي، أقول هذا وقد شاهدت في باكو وباريس وبراغ وبعض الدول العربية بنية ثقافية متينة لكنها لاتحمل الزخم الذي تملكه بلادنا ونحن في واقع الأمر أقدر بكثير ليكون لدينا بنية ثقافية وحضارية تتجاوز ما لدى العالم جودة ومحتوى ودهشة.
إن التسويق الثقافي الناجح يبدأ بتمكين الحرفية القادرة على إنتاج “خلطة سرية” يمكنها تحويل العنصر الثقافي إلى منتج مؤثر. فلو نظرنا إلى الآثار ، القصص الشعبية، الأفلام، المسرحيات، الصناعات التقليدية، الشعر… لوجدناها مادة خام لتصنيع المنتج الثقافي، الذي يصنع لدى الجمهور المحلي ثقة في نفسه وماضيه ومبدعيه، وينشيء للوطن رموزا يباهي بها أمام أسماء كُرست لعقود ومئات السنين في قارات أخرى وهي باقية حتى الآن بلا بدائل محلية.
نبدأ في فهم التسويق الثقافي، بصناعة الرمز شخصا كان أو أدبا أو فنا أو حتى قطعة قماش أو كسرة طين، هذه المواد هي نفط الثقافة التي يتحول إلى مزارات ومتاجر وعروض وفعاليات تستحق أن تبارز المنتج الثقافي الذي استوردناه دون أن يفيدنا بل أرهقنا في حلبات النقد والمقارنة ومعارك الإعلام بين المبدعين.
بوصولنا لمنتَج مشرف في كل مجال ثقافي نصنع فرادة الثقافة الوطنية ونبدأ في ضخها للتداول بعد أن أصبحت منتجاتنا مؤهلة للتناول الجماهيري، هنا في الوطن، وخارجه، مع المواطن والسائح الذي يجب أن يكون جزءا من دراستنا للسوق وهو القادم لتخليد تجربة حياتية متكاملة.
يقول تيم ويليامز ” هدف التسويق أن تجعل الزبائن تتعرف عليك، تعجب بك، تثق بك” فبعد صناعة المنتَج الثقافي الفريد، يأتي دور إشهاره والتعريف بوجوده -هذا الإشهار مرحلة مهمة- ربما لا تكون مرحلة مربحة كما نتمنى ماليا، ولكنها مربحة جدا على الصعيد المعنوي، إنها مرحلة تصدّر الجمال والسحر ليتحدث عنّا فلو أنتجنا مسرحية شعرية تقدّم قصة من بطولات الأجداد وكانت ناجحة تقنيا وأدائيا لجذبت العديد من الجماهير وساهمت في توفير تجربة مميزة للسياح ولربما تجاوزت مبيعاتها مسرحيات عديدة في الغرب تصدرت شباك التذاكر واستمرت لأعوام كما شاهدنا في مسرحية Hamilton التي تناولت قصة تأسيسه للنظام المالي في أمريكا إبان تكليفه بحقيبة الخزينة في عهد جورج واشنطن.
ماذا لو أنتجنا فلما أو مسلسلا عن قصة حدثت أثناء تحرك الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه لاستعادة الرياض وإجلاء العثمانيين ومناصيريهم في البكيرية والشنانة والأحساء! ستكون قصة ملحمية درامية عظيمة تعكس بيئة الحياة والظروف الاقتصادية والمعيشية في حقبة كان بطلها المؤسس المؤيد بنصر الله مع رجال أوفياء سطروا قصصهم الخالدة في هذه الصحراء المباركة.
وهذه القوة تنطبق على عظمة الحجر الذي يعد علامة أثرية مهابة بفضل الجهود المبذولة لجعل أرض الحضارات واحدة من أهم الوجهات السياحية في العالم، والصناعات التقليدية التي نشاهد اليوم مشاريع الشباب الحديثة تنجذب لتجعل من الملبوسات والنقوش والخامات واللهجات مواد لابتكار منتجات تجارية “ثقافية” تطرق باب الوجدان وتدلف لتدغدغ مشاعر كل من يقتنيها، وأقرب مثال مانتج من إبداع رائع وأفكار نيرة في تركيز وزارة الثقافة على “القهوة” وأصبحت القهوة السعودية منتجا ثقافيا رائجا ونفتخر به.
إننا عندما نصنع المنتَج الثقافي بوعي، ثم نشهره ونعرف به، يكون بذلك قابلا للاختبار والتجربة وأتمنى أن نتفق إذا قلت بأن المنتج الثقافي النابع من الهوية غالبا ما يثير الاهتمام الشعبي ونحن عندما نُخضع المنتج الثقافي للتلقي والتجربة نكون أمام فرصة ذهبية موازية لدراسة وتحليل هذا التلقي الجماهيري، “فحالات الرفض التي قد نواجهها يجب أن نتعامل معها كطلبات للتغيير أو الزيادة” كما قال: بريان تراسي، وبنظرة (أهل التجارة والمال) نصنع علاقة وطيدة مع المستهلك، وميزة الإنتاج الثقافي العظيمة هي نعومة التعامل مع سيكولوجية المتلقي وقوة التأثير فيه.
والحقيقة التي يجب أن ندركها، أن أي محاولة لاتباع الطرق السائدة والتقليدية في تسويق المنتجات هي نوع من (ذر الرماد) مجرد أداء واجب يُحسب في التقارير والأوراق تسويقا وعملا؛ لكنه للأسف عمل مبتور وبربجندا مؤقتة وهذا خطر كبير على الإنتاج الثقافي لأنه مع مرور الوقت يشعر القائمين باستنزاف المال في منتج لا فائدة ولا تأثير له في السوق مع الناس، وهي نتيجة تبرر التحرك في الاتجاه المضاد لتبني أسلوب التقليد واتباع الرائج وتقدير السطحي لأن المسؤول آمن باستنتاج خاطيء وهو أن ثقافتنا لم تكن قادرة على الصمود!
لذلك فإن الثقة في المكون الثقافي يجب أن تكون غير قابلة للنقاش ومن المسلمات، وما نحتاج إليه هو تغيير الأساليب ومواكبة التغيرات لتكريسها، وطلما أننا نتعامل بالثقافة في بيئة السوق فعلينا أن ننتبه لما قاله فيليب كورتر “تفشل المؤسسات في إدارك حقيقة أن أسواقها تتغير كل خمس سنوات” وهذه المقولة تعزز أهمية المواكبة ليكون القائم على الانتاج لصيقا بالسوق وواعيا لمتغيراته ومراقبا لاحتياجاته ومنتهزا لفرصه، من حيث الحلول والتقينات والمنافسين وغيرها.
إن صناعة المنتج وإشهاره وطرحه للتجربة والتداول خطوات تصاعدية لتسويقه، وهي بذلك حققت أصولا للاستثمار وسطوة حضارية وسلعا خاضعة للربح والخسارة، وبعد إعجاب الجمهور بالمنتج وثقتهم به تأتي مرحلة الترويج والاستثمار بعيد المدى، هذا الاستثمار الذي تجاوز التفكير في الربح المالي إلى الربح البشري من خلال (جذب العملاء) لتكون أرقامه بعدد الناس المستقبلين للثقافة والمتأثرين بها والمعجبين الذين يساهمون في دفع المنتج مع صُناعِه ليكون علامة تجارية فائقة النجاح ولتصبح الثقافة “ملكية فكرية” استثمارية مدى الحياة وقابلة للتطوير وإعادة الإنتاج أيضا.
هذا يضع ماننتجه على مسار الاستدامة، الاستدامة التي تُعزز بتمكين الرواد والخبراء للمشاركة في المشورة والتخطيط، وتأهيل الشباب لتمكينهم من فرصة صناعة العربة المتينة للتحرك بانسيابية في اتجاه الإبداع والتطور، وأنا أؤمن بأن الاستدامة تنهار في المجال الثقافي عندما يتخلف جيل عن تسليم الراية للجيل اللاحق.
كل ماسبق تحدثت فيه بشكل عام على الصعيد المؤسسي، لكن الأفراد المبدعين في مجالات الثقافة سيكونوا ناجحين إذا برعوا في التعامل مع منتجهم الخاص بنفس الأسلوب، اليوم نحن نعيش عصرا تُستهلك فيه الثقافة كأي منتج، وهذا ماجعل بعض المنتجات التي تحمل ملامح ثقافية منتجات سطحية قد تنجح لكنها لا تدوم طويلا من حيث التأثير أو الاهتمام، وأنت كمبدع أمامك فرصة لتصنع من قصائدك، لوحاتك، وهواياتك الأخرى علامة تجارية تنافس بها أقرانك محليا ودوليا ربما لاتكون منتجا تجاريا رائجا لكنك قد تحقق الجوائز والاهتمام بالنشر والمتابعة والإعجاب بما تنتج في قنوات التواصل بطريقتك الخاصة التي قد تستلهمها من هذا المقال ولكنك تقدمها بطريقتك المتوائمة مع ظروف بيئتك وإمكاناتك كما فعلت أنا في المسرح ومازلت أطمح للكثير ككاتب ومخرج ومدير شغوف بهذا الفن.
هذا فعلا ما أود قوله، التسويق الثقافي هو الفرصة الأكثر واقعية لتنمية الثقافة واستقلال منتجيها أفرادا كانوا أو مؤسسات لخلق بيئة تنافسية تخدم الثقافة وتستثمر في مكوناتها.