المسرح حالة روحية تنجح كلما حققت لدى المتلقي جرعة عاطفية عادلة.
محمد الحمامصي السبت 2023/09/02
يمتلك السعودي ياسر يحيى مدخلي مشروعه المسرحي الخاص الذي أصبح خلال سبعة عشر عاما وسيلة للتواصل مع الجمهور وفهم ميولاته وتقديم قراءة حقيقية له تكون حافزا لإنتاج متعة مسرحية عميقة تتطلع إلى الارتقاء بالفكر الجمعي وبالمسرح السعودي في إطار محيطه العربي وحتى موقعه ضمن الحراك المسرحي في العالم.
من خشبة المسرح إلى منصات التتويج محليا ودوليا، صنعت مكانته المهنية جدية العمل ودأبه المستمر بشغف المسرح، تشكلت إبداعاته على تراكمات الخبرة المتنوعة بين الفنون والإعلام والبحث الاجتماعي وماجستير حقوق الإنسان، أسس في مطلع العشرينات من عمره مشروع “مسرح كيف”، فأضحى إسهامه في المسرح وأسلوبه الذي قدم من خلاله تجارب لفتت الانتباه، وكتب له نصوصا ودراسات مختلفة. ياسر يحيى مدخلي اسم يعبر عن الكاتب الواعي والباحث المحترف، والمخرج المتمرس، والقيادي الناجح الذي نقل فرقته المسرحية خلال سنوات من دائرة الهواية إلى العمل المؤسسي، حتى صار “مسرح كيف” بدعم ذاتي مرتكزا على حوكمة متينة وسياسات تنظيمية وخطة إستراتيجية طموحة.
في هذا الحوار مع مدخلي نضيء الكثير من معالم وقضايا المشهد المسرحي السعودي عامة و”مسرح كيف” وتجاربه خاصة.
انطلاقا من رؤية المتابع للمشهد المسرحي السعودي الذي يمكنه ملاحظة أن هناك حراكا واسعا في فعالياته.. نسأل مدخلي: هل لك أن تضعنا داخل هذا الحراك والدوافع الكامنة وراءه والدور الذي تلعبه الدولة في دعم هذا الحراك؟ فيقول “منذ أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن رؤية 2030 وأطلق برنامج التحول الوطني كانت البشارة لبلادنا المجيدة لتجاوز الزمن، وتنمية الوطن واحتوى ذلك خططا كثيرة منها تحقيق رفاهية المواطن بتخطيط وتنفيذ مباشر لمواكبة المرحلة، وصنع نموذج حديث للحياة التي تليق بالزمان والمكان والتطلعات، جاء المسرح كأحد مكونات الثقافة في بؤرة الاهتمام ترفيهيا وثقافيا وسياحيا وتعليميا ونشطت الفرص والبنية التحتية لتكون قادرة على تبني المبادرات المحلية، واستقطاب مشاريع عربية وعالمية وأصبحت في ما نحن عليه اليوم منصة مهمة يتمنى صعودها نجوم الفن العربي والعالمي”.
تنوع مسرحي
“مسرح كيف” هو فريق وأسلوب لصناعة التجربة المسرحية بمهنية والمسرح الذي لا يقدم تجربة هو مسرح بائد
يرى مدخلي أن هناك تنوعا في الأعمال المسرحية السعودية ما بين المسرح الكوميدي والتراجيدي والتجريبي، وأن ذلك أثر في جمهور المتلقين، ويوضح “الملفت أن جمهورنا متنوع وهذا انعكاس للتنوع الجغرافي والثقافي الموجود في المملكة، لذلك كان الإقبال على المسرح رائعا ويؤكد أن سوق المسرح بكر ومشجعة لإنشاء استثمارات كبيرة فيها بشكل يتواءم مع التغييرات المهمة التي تحدث في النظم الاستثمارية التي تستقطب رؤوس أموال وشركات عالمية للاستفادة من الأرضية الخصبة لإنشاء مشاريع ترفيهية وثقافية وسياحية مميزة، والسعودية اليوم الأكثر أمانا واستقرارا وتشجيعا للمستثمرين الذين ينطلقون في فضاءات أرحب بمشاريع قادرة على تجاوز المألوف ومواكبة الرؤية السعودية الطموحة التي ظهرت بوادرها في مشاريع ضخمة تتجاوز قدرات التخيل أحيانا”.
وحول تأسيس “مسرح كيف”، دعمه وتمويله، يؤكد مدخلي “الدعم ذاتي، أعمل بشكل مستقل والفرقة التي بدأتها في 2006 بنموذج بسيط هي اليوم جمعية تعاونية مرخصة وتعد الأولى من نوعها، لذلك أستطيع أن أؤكد لك بأن الطموح لا يتوقف، والشغف يقودني دوما لأحلم بالأفضل والأجمل، والمواهب التي أسست وعملت أو انتمت في فترات مختلفة إلى ‘مسرح كيف’ هم تلامذتي وأساتذتي في نفس الوقت، ولهم امتناني الدائم كونهم رفقاء الدرب الصعب الذي حققنا فيه مكانة لهذا الكيان كفريق، واستطعت من خلال دعمهم وإيمانهم بتجاربي المسرحية الوصول إلى هدفي بتأطير أسلوب واضح ومنهجية منظمة ورصد دقيق لما أعمل عليه من تجارب منذ اليوم الأول في هذا الفريق، ‘مسرح كيف’ هو فريق وأسلوب لصناعة التجربة المسرحية بمهنية وأعتقد أن المسرح الذي لا يقدم تجربة هو مسرح بائد”.
وقدم مدخلي أخيرا مسرحية كوميديا ارتجالية تفاعلية بعنوان “صادق النمك” والتي حققت نجاحا كبيرا، لذا كان التساؤل هل هذه هي المرة الأولى وما مدى تفاعل الجمهور معها؟
يقول “نعم ولا، في الحقيقة بدأت هذه التجربة في 2011 وكتبت لها نصا باسم ‘البرمائي’ وكانت حرفيا مقتبسة من رواية أبوشلاخ البرمائي للمرحوم غازي القصيبي، ووجدت اهتماما جيدا من المتخصصين آنذاك حيث عرضت في مركز الملك فهد الثقافي بالرياض والمكتبة العامة بجدة، وفي ظل الظروف الحالية قمت بإعادة تصميم التجربة وإعادة الكتابة بأسلوبي الخاص بهدف تصميم قالب مبتكر للكوميديا الارتجالية التفاعلية. وعادة ما تهدف التجارب في ‘مسرح كيف’ إلى قياس هدف أو اختبار فرضية حيث كان هذا العرض يسعى لمعرفة مدى اهتمام الجمهور بالمشاركة وإنقاذ العرض الذي يمر بفترات رتيبة في إيقاعه الدرامي، ويطرح أسئلة حول نوع المداخلات من حيث قياس مستوى الكذب لدى الجمهور، ولاحظ الفريق في التجربة الأولى مستوى عاليا من الاهتمام بالمشاركة وقدرا عاليا من التنمر على الممثلين وبالذات الضيف الذي يستقبل الأسئلة”.

ويلفت مدخلي إلى أن الكوميديا الارتجالية أو ما يعرف بـ”الستاند آب كوميدي” يعتمد على “وقوف شخص واحد لتقديم مادة محكية بهدف الإضحاك ويقتصر تفاعل الجمهور معها بالضحك والتصفيق؛ لكن في القالب التجريبي الذي أسميه الكوميديا الارتجالية التفاعلية كان كسر النمط التقليدي بعدة تغييرات وهي أن نضع شخصين بدلا من واحد وأن يقوما بتجسيد أدوار لا بتقديم نفسيهما، وأخيرا أن يكون تفاعل الجمهور متاحا بالتمثيل”. و”صَادِق النَّمَك” عرض مسرحي تجريبي يمزج بين مسرح المقهى والغرفة، الديودراما، الارتجال، مسرحة الرواية بالإضافة إلى التفاعل، حيث يكون الجمهور متفاعلا مع العرض بالتمثيل الصوتي من خلال “المكالمات الهاتفية” التي تتداخل مع العرض المقدَّم على هيئة لقاء إذاعي مباشر، وعلى الممثلين الارتجال فورا بالتجاوب مع الاتصالات الواردة.
وحول ما إذا كان قالب الكوميديا الارتجالية التفاعلية، كما يسميه، تطورا لمسرح المنتدى أو نستطيع القول إنه شكل من أشكال مسرح المقهى أو الغرفة، يرى المسرحي السعودي أن “مسرح المنتدى ينطلق من كون السياسة جزءا جوهريا في مضامينه، وأن المشتغلين في هذه الأنواع هم الهامشيون والمقهورون وصوت المضطهدين المطالب بدور ديمقراطي وحلول لمواجهة القمع، وهذه الظروف السياسية لم تمر بالمجتمع السعودي، فالمسرح في السعودية كان ولا يزال بعيدا عن تأثير السياسة والتصادم معها، وهذا يعود إلى الاستقرار الداخلي الذي عززته الدولة برغم ما مرت به المنطقة من حروب وصراعات ضروس، لذلك لا أجد تشابها في المضامين، وحتى على مستوى الشكل فالعرض الذي تقدمه الكوميديا الارتجالية التفاعلية عرض يسخر بشكل فلسفي مبسط من الأخلاقيات التي تنشأ في المجتمع نتيجة العفن الذي يصدره التافهون في التواصل الاجتماعي وانهيار المؤسسات الإعلامية الواعية وتردي الثقافة الفردية”.
ويشير إلى أن “الهدف من هذا القالب هو صناعة حوار وتمكين الجمهور من التعري أمام بعضهم ليكتشفوا بأن النموذج السيء الذي نهتم به كمتابعين يشبه حقيقتنا التي يجب أن نتجاوزها، الفكرة أخلاقية وفلسفية لا تتعاطى مع السياسة لكنها قد تسخر من الفكرة السياسية والتاريخية والاجتماعية عندما نعتنقها ونحتاج إلى من يعيد صياغتها لنا، وأما مسرح المقهى فهو يعتمد على المفاجأة والمجانية في تقديم العرض، ولكننا لم نأخذ منه سوى قدرة العرض على التنفس في مقهى أو غرفة أو أي فضاء بشكله البسيط”.
تحدي النمطية

أثارت مسرحية “صادق النمك” في أحد عروضها نقاشا بين المسرحيين شاهدته في تقرير مصور حيث لفت نظري تساؤل كرره أحد الحضور، أين الجدار الرابع؟ كيف وجدت آراء الجمهور بعد العرض؟
يعلق مدخلي على ذلك موضحا “أحب الجمهور المثقف، لكن بعض المثقفين عندما يناقشون علنا، ينسون بأنهم وقعوا في الفخ، بالذات إذا كانوا يعرون أنفسهم بحثا عن الضوء، لو فكروا قليلا لوجدوا أن ابتكار أي قالب يقوم على تحدي النمطية حتى لو كان خليطا من أنماط معروفة، المحك في صناعة شكلنا الجديد لزمن أصبحنا فيه كمتلقين نشعر بضرورة التفاعل والتنمر والشتم والتدخل والتغيير.. عندما أجبت على هذا السؤال قلت، الجدار الرابع يحيط بكل متفرج إلا إذا تفاعل مع العرض. إن جدار الإيهام يسقط باختيار المتفرج فالمداخلات محدودة ومن يتفاعل ويمثل معنا يهدم جداره ومن لم يتمكن أو لا يرغب في التفاعل فهو يقبع خلف الجدار وهو خياره، وما زالت التجربة تخفي الكثير من الأفكار والمعاني في طياتها والنقاش حولها يطول”.
ويرى مدخلي إمكانية اقتراح أن تكون “الارتجالية التفاعلية” قالبا مناسبا للجمهور السعودي أو العالم العربي أو حتى على نطاق أوسع، ويقول “ربما، ولم لا، هو قالب، أسلوب يمكن تشكيل محتواه وتطويره والتغيير فيه أيضا، المسرح حالة روحية تنجح كلما حققت لدى المنتج والمتلقي جرعة عاطفية عادلة، أحيانا يكون صانع العرض أنانيا، يكتفي بتفريغ طاقته الإبداعية ويكتفي بنفسه وهذا النوع نتج عنه جمهور لا يحترم المسرح ولا يهتم به ولا يثق في محتواه، بل أصبح جمهور المسرح يحضر إلى المسرح لأي فعالية غير المسرح، هجران المسرح ليس بسبب الجمهور بل بسبب الإنتاج الهزيل والفنان الأناني والمثقف المتعالي والجهلة الذين يتأرجحون على كراسٍ تدور فارضين وصايتهم على الفن. الكوميديا الارتجالية التفاعلية قالب سهل ممتنع، وقالب مبتكر، استحسنه كل من حضر وشاهده أو شارك فيه، وهو امتداد لتطور المسرح، وأتمنى أن يكون أسلوب ‘مسرح كيف’ إسهاما سعوديا في المسرح العالمي”.
مدخلي يرى تنوعا في الأعمال السعودية ما بين الكوميدي والتراجيدي والتجريبي، وأن ذلك أثر في جمهور المتلقين
ويشدد مدخلي على أن العالم منجذب إلى التقنية التي مكنت الجميع من التفاعل بالإعجاب والتهكم والحجب وغيرها من أساليب التفاعل الرقمية “ومن هنا انطلقت الفكرة، كيف نقدم نفس الامتيازات لجمهور عصري، جمهور تجاوز الحضور الرسمي وصار ينظم اجتماعات العمل عن بعد ويشاهد كل شيء في هاتفه ويضغط زر الإعجاب ويتابع ويرد ويجادل الكل ويصور نفسه ليقدم وجهة نظره ولو كان متابعوه لا يتعدون أسرته أو أقاربه. هذه الذهنية الجديدة التي يمتلكها الجمهور اليوم صنعت أمامي قراءة جديدة للناس ولنفسي، مسرحنا الكلاسيكي لذيذ وفاخر لكنه لم يعد جماهيريا بما يكفي، لذلك بدأت بصناعة عدة مشاريع تعتمد على هذه الفكرة، فكرة التفاعل مع التقنية، وستكون قريبا عن ‘مسرح الجريمة’ وهو مشروع حصل على شهادة الملكية الفكرية ويقدم العروض المسرحية بشكل مختلف يستخدم التقنية ويحقق للمسرح استدامة ومواكبة للتغييرات المتسارعة في المجتمع، وسيكون للجمهور دور بارز في صناعة محتواه”.
ويضيف “المسرح يبدأ بالجمهور، الجمهور يلهمنا لنصنع مسرحنا، والتجريب عملية مرهقة وأظنها حالة كانت تلائم القلق الذي كان يعيشه الناس، لقد سئمت شخصيا من عشوائية التجريب في المسرح، التجريب نشأ في ظل اضطراب فكري وظروف ثقافية لمجتمع مختلف تماما، استهلكناه لحاجة جمالية أكثر من احتياج اجتماعي لا أميل إليه كثيرا، وأيضا لا أميل إلى المسرحيات السطحية والصناعة التقليدية للعروض التجارية، هذا ليس إنقاصا منها لكنه شعور شخصي منذ سنوات طويلة! مازلت مؤمنا بأننا بحاجة إلى مسرح عالمي جديد، مسرح يشبه عالميتنا، وأتمنى أن يكون لـ’مسرح كيف’ دور في ذلك، أو على الأقل إرهاصاته الأولى لتكوين النموذج الجديد، البساطة والجمال وجهان لعملة واحدة، وفي ‘صادق النمك’ استطعنا أن نعيد تدوير الدهشة المسرحية في مقهى”.
أما أبرز التحديات التي تواجه المسرح السعودي بشكل عام فيحددها في “البنية التحتية والتشريعات، ثم يأتي بعد ذلك تنشيط القطاع بما يخدم الحالة الاجتماعية من كل جوانبها، المسرح له دور كبير في التنمية الثقافية والتنمية الاقتصادية، وله أثر في المجالات السياسية والمهنية وغيرها، إنه فرصة حقيقية للمجتمعات المتقدمة، يحقق الرفاهية ببساطة ويذكي الوعي بنعومة ويصنع مساحة رحبة للحوار والجمال والتفكير. البوصلة مفقودة حاليا في المنظومة المسرحية، لكننا لا ننكر جهودا مهمة لهيئة الترفيه التي وضعت السعودية على خارطة المسرح العربي والعالمي”.
ويوضح “تجتهد وزارة التعليم لتخصيص مساحة للمسرح والفنون الأدائية وهناك جهود لوزارة الثقافة أيضا لإعادة تأسيس البيئة التنظيمية لكننا ما زلنا ننتظر أن يصبح المسرح السعودي على خارطة المسرح العالمي. ومن تحديات المسرح، الدخلاء الذي يعملون فيه دون خبرة ويدفعهم التكسب إلى إنتاج عروض هزيلة فاشلة ومشاريع مجانية لا تحقق الحد الأدنى من دور المسرح التنموي والإنساني الذي يعزز التماسك والتعايش ويبرز الهوية بكافة ملامحها وتوعية الشعوب بأهمية الولاء للأوطان والإخلاص لمقدراتها والمحافظة على مكتسباتها”.
ويخلص مدخلي متسائلا “هل يمكن أن يحضر أي جمهور في أي بلد لأي عرض ‘بلا نجوم’”، ويجيب “الإجابة المنطقية، طبعا لا. النجم جاذب بلا شك لأنه سلعة أو بالأصح ‘ماركة’ والمستهلك يلهث وراء الماركات، دعنا نصيغ السؤال بطريقة تشبهنا في ‘مسرح كيف’، كيف نصنع مسرحا يجذب الجمهور؟ والإجابة أن يكون المسرح هو الماركة التي تجذب هذه المجتمعات الاستهلاكية. ولنتفق على صياغة أخرى كسؤال إستراتيجي، كيف نصنع ثقافة جماهيرية للمسرح؟ الإجابة: بدعم محتوى جاذب في المسرح وليكون خيارا مطروحا للشعوب وفرصة شبه يومية لممارسة حياة مميزة، وليس لمجرد قضاء وقت ممتع”.