مجلس العدل، مطبخ الظلم

25 محرم 1433

ضمن مهرجان الطائف لمسرح الشباب تشرفت بحضور نشوة المسرح الشبابي وكنت قد كلفت بقراءة نقدية حول النص والعرض المسرحي ” مجلس العدل” للكاتب الكبير توفيق الحكيم والتي تجرأ وقام بإنتاجها نادي المسرح بجامعة الملك سعود وللنادي ماله من الإنجازات والمبادرات التي كان آخرها هذه المسرحية. لذلك وجب علينا أن نحيي هذا النادي على تجربته مد جسر تواصل مع نصوص العالمية والعظيمة لما في ذلك تعزيز لمسرح راق بهزله وجِده، وأتمنى أن تهتم باقي الفرق المسرحية بالمملكة بتقديم أعمال مسرحية عالمية لما في ذلك من دربة وممارسة مسرحية مؤثرة.

لقد نشر الكاتب الكبير توفيق الحكيم في عام 1967م كتابا بعنوان (قالبُنا المسرحي) حيث دون فيـه مقدمة تضمنت مقترحا للكتَّاب المسرحيين العرب وهو تشكيل قالب مسرحي عربي استنادا على الموروث العربي بمزاوجة مع النمط الغربي مبررا “أن الفن يبدأ من النقل وينتهي إلى الأصالة” وبغض النظر عن تقييم النقاد لهذه النظرية ومدى إيجابيتها إلا أن تساؤله ” هل يمكن أن نخرج عن نطاق القالب العالمي للمسرح، وأن نستحدث لنا قالبا وشكلا مسرحيا مستخرجا من داخل أرضنا وباطن تراثنا؟”

هذه كانت دعوة استفهامية من الحكيم ليوجه الكاتب إلى الكر نحو الوراء لتناول تراث العرب الفكري والفلسفي مشيرا إلى الأصفهاني و الجاحظ وبديع الزمان لتكوين قالب مسرحي عربي له من الأصالة ما يؤهِلُه ليأخذ المسرحُ مكانه في الأدب العربي.

وها نحن نكر نحو الحكيم وهو اليوم بالنسبة لنا.. كاتب أصيل

ما جاء في النص:

إن “مجلس العدل” التي كتبها توفيق الحكيم في عام 1972م لازالت تناسب كل زمان ومكان، لأنها عمل مصاغ بنمط إنساني يمس الواقع وتُعتبر المفارقة “في موضوع النص” قضية واقعية ولكنه عالجها بطريقة مبتكرة أو على الأقل مستفزة وجذابة.

ومن خلال عديد من القراءات مارستها على النص الراهن وجدته في غاية البساطة لكنه ممتنع وعصي في أسلوبه وتكنيكه الكتابي، وتعتبر مسرحية “مجلس العدل” من وجهة نظري المتواضعة نصا مسرحيا متقنا،    وكما يعالج بحسب النظرة الأولى قضية الظلم والأحكام الجائرة، فهو أيضا يشير إلى  قضية ضمنية و شائكة وتنبؤية تنذر بخطورة استمرار مثل هذا المجلس في أي مكان، وتكمن الخطورة في استمرار سذاجة المظلوم و تقبله بذلّ للحكم الجائر.

إن الفكرة العامة للنص تتموضع في دائرة العدل والظلم وهي بالتأكيد تحتاج إلى قاض، والخيار في وجود شخصية القاضي قوي ولكن كان اختيار الحكيم لشخصية الفرَّان “الطباخ”  لم يكن أمرا عاديا أو عائدا على الصدفية، بل كان مدروسا أو في أغلب الظن موفقا لأن في هذه الشخصية قوة درامية وعلامة مهمة تشير إلى أكل العيش والأرزاق و تفيد تناصا مهما لغاية النص وهو الطبخ والأكل   “بغير حق”.

الحكاية في المسرحية كانت متجددة ويمكن أن تستمر أكثر ويمكن أن تتقلص وتكتفي بحادثة الإوزة ولكن إثارة قضايا أخرى جاء ليؤكد على استشراء الفساد وتمتُع الحاكم القاضي بالجور واستغلاله لسلطته القضائية التي هي من أعلى السلطات البشرية في كل دول العالم.

وكان الحوار مقتضبا مكثفا وعميقا في الوقت ذاته وقد أدى الحوار في هذا النص دوره بجدارة حيث دفع هذا الحوار، الأحداث المتواترة منطلقا من الحدث الأول بحبكة جعلت في توالد الأحداث نموا طبيعيا مترابطا. وكانت اللغة بسيطة جدا وكان الحكيم يغذي الحوارات ببعض الكلمات المستخدمة لدى العوام في مصر . وقد تم تصميم الصراع في النص في أطر تنبثق من بعضها في شكلها الدرامي وهي عبارة عن صور متعددة بألوان ونقوش مختلفة ضمن إطار كبير  وجاءت الذروة في النص الأصلي متباينة فلكل حدث ثلاثة أطراف اتسمت في رسمها الدرامي وكأنها متتالية مثلثات متى أعدنا استعراض النص.

إن من أهم سمات النص التراجكوميدي أن تُـخلق الشخصيات طبيعية بعيدة عن المبالغة التي تأخذ قسطا من الأحداث والقرارات الدرامية وهذا النص اتسم بالحوارات المضغوطة و الأحداث المركزة وهو مرن للعرض ومقتصد في شخصياته متوافق مع الجمهور بكل لغاته وثقافاته وأزمنته لأنه نص إنساني إطاره المتعة ومضمونه عميق يحتمل المباشرة والرمزية.

ما جاء في العرض:

إن الإرهاصة الأولى التي تكون بمثابة شرارة الاتصال بين المتلقي والعرض هي مشاهدة الفضاء المسرحي الذي يتكوَّن من الصورة المشهدية التي يبنيها المخرج ليبدأ المتلقي الدخول في عملية الاتصال بما لديه من خلفية ومعطيات.

الفضاء المسرحي:

في هذا العرض جاء الفضاء بصورة العرش “الكرسي” الموضوع على عدد من الدرجات وتعتبر سيميائيا دلالة على علو مكانة “الحاكم ” ربما أو القاضي وطبقته الاجتماعية ويعلو ذلك الكرسي ميزان مالت إحدى كفتيه عن الأخرى وهي اليسرى وهذه علامة قد يمكنني تفسيرها بترجيح المخطئ والمعتدي بشكل مستمر.

لقد عُلِّق في فضاء المسرح كرسيين وطاولتين بشكل مقلوب وهذه علامة لقلب حال المدعي والمدعى عليه اللذان من المفترض أن يجلسان عليها. وهذه الفكرة الجميلة بصريا أعطت المخرج فراغا مسرحيا أكبر وأعمق مما حمله مسئولية ملئه بحركة ممثليه.

الألوان:
اعتقد أن اختيار الألوان الأزرق والأحمر والأبيض والأسود كان مناسبا لو نظرنا لمرجعية اللون ودلالاته الشائعة وعلاقته بردود الفعل السايكو فسيولوجي (النفسي والجسدي) والتأثيرات المختلفة على المتلقي لهذه الألوان والتي أثبتتها الدراسات والتجارب العلمية على المزاج الإنساني. فالأحمر والأزرق لم يكونا صريحين وكونهما زاهيين أضاف من وجهة نظري شيء من الرفاهية والفخامة للمكان.. مجلس العدل وكان اللون الأحمر الساخن نقيضا للأزرق البارد بالنسبة للديكور والأبيض نقيض للأسود في الأزياء. وارتدى “الفران” لونا أزرقا بأبيض والقاضي أحمرا بأسود.. فكان التزاوج في الألوان له عمق سحيق لا نهاية لها في الدلالات التي يحتملها العرض.

الديكور:

لم يكن الديكور يحمل علامات محددة لزمان أو مكان وهذه لعبة يمارس من خلالها المخرج إمكانية حدوث هذه الأحداث في أي مكان وزمان وتعليقه للديكور كان أشبه بعبثية تعزز رغبته في تمويه المكان والزمان ولم يخالف بذلك فكرة النص الرئيسة.

وهذا في حد ذاته تكتيك هرب المخرج من مواجهة الرقيب خصوصا وان موضوع النص يأخذنا لآفاق أكثر خطورة متى اعتمدنا على المعطيات الرمزية.

الماكياج والأزياء:

لم يستخدم المخرج الماكياج عدا في شخصية المفقوءة عينه وكنت أتمنى أن يستخدم الماكياج حتى يتمكن من إيصال فكرة تعدد الشخصيات واختلافها شكلا ومضمونا كما في النص وهذا ليس إنقاصا، فقد يكون له دلالة لم أتوصل إليها خصوصا وأنه وحَّد أزياء المظلومين “بيضاء سوداء” دون تمييز لأحد منهم عن الآخر ومنطق استغرابي هو أن الفرَّان جاء بلباس الطباخ صراحةً مما كسر الرمزية التي مارسها على هيئة القاضي والمظلومين وجاء طبيعيا واقعيا عند الطباخ.

المؤثرات الصوتية والموسيقية:

اختفت الموسيقى وحلت البدائل وكنت أتمنى أن يثق المخرج بقدرته في استنطاق البديل كما فعل أحيانا حيث أداها الممثلين بشكل كامل ولم أر داع لبعض المؤثرات الطبيعية.

الشخصيات (الأداء والتمثيل)

قام غياث بدور الفران بشكل مقبول ولكن ثمة  شيء من المبالغة والتصنع في أداءه و ( من وجهة نظري المتواضعة) لم يستفد الفران من الانسجام الذي حصل مع القاضي الذي وفق أكثر في أداءه.

وجاءت الشخصيات الأخرى أكثر تشابها فلم تكن الأبعاد واضحة، ولم تكن لطريقة الزومبي التي تحدثت بها الشخصيات بشكل متكرر دلالة أو أثر خصوصا وأن الشخصيات تمردت في النهاية فهي لم تمت.

الفراغ المسرحي:

كان المخرج على قدر المسؤولية عندما أفرغ الخشبة من كل شيء عدا كرسي القاضي فقد استغل الخشبة وكانت المسرحية حيوية ومشدودة.

نقاط سريعة:

  • لم أر مبررا للفواصل التي حصلت فلم يكن العرض بحاجة لفصل بين المشاهد
  • لم تعجبني النهاية وكنت أتمنى ألا تتم المباشرة في مسرحية اتسمت بالعلامات الرمزية
  • لم يكن هناك إعداد للنص كما كتب على المنشور وماتم على النص لا يرقى ليكون إعدادا من وجهة نظري المتواضعة.

في الختام أوجه لفريق العمل الشكر الجزيل على المتعة والفائدة فقد قدموا لنا فرجة قيمة. وللقائمين على مهرجان الطائف لمسرح الشباب حيث احتضنوا الشباب المسرحي بحفاوة لها لذة الرمان.