غسان شربتلي (عراب الحزن)

إحساس يعيد صوت الأرض

 من منّا لا يتذكر تلك المنافسات الفنية التي كانت ملمحا من ملامح أقطاب الحركة الفنية في السعودية، تلك المنافسات أو حتى المعارك الإعلامية التي جعلت من الساحة الغنائية مضمارا للسباق نحو ذوق المستمع ووجدانه خصوصا تلك التي يتذكرها بشكل دقيق جيل الستينات والسبعينات الذين انطلقوا بعد تأسيس فرقة الإذاعة عام 1961 وبدية حركة فنية سعودية بمرحلة جديدة صعَّدت الكثير من الأسماء و خلقت جوا من المنافسة لعل أشهرها بين المرحوم طلال مداح و محمد عبده، ذلك التنافس الذي هيأ للحركة الفنية فرصة لترفد مسيرة الأغنية بأعمال فنية خالدة على مر الأجيال، وربما أن التطور – منذ الألفية الأخيرة – الذي  أصاب الغناء العربي اليوم وجرّه نحو منطقة استهلاكية  نمّط الأغنية وقولبها في شكل لا يتعدى ملامسة الاذن ولا يتجاوز عمر الأغنية وارتباطها بالناس أعواما قليلة إن لم صمدت في موسم إنتاجها الوجيز.

وفي ظل تردي الغناء بقى على عروش الأغنية عدد من الأسماء التي جاءت من زمن الطيبين ولم ينجح في صناعة العمل الغنائي المميز إلا من يجدد منطلقا من روح الأغنية الصادقة والجزلة مشاعرا وكلمات.

وبرغم خوض العديد من المواهب غمار المحاولة وانخراطهم في معترك هذا الحراك إلا أن منهم من انقطع نَفَسُه، ومنهم من طحنه ذوق المستمعين، ومنهم من بقيت أغنياته لملء فراغات الإذاعات التجارية لا أكثر.. ويندر أن تجد أسماء جديدة بأعمال صنعت بصمة تستحق بها البقاء لمدة أطول من غيرها التي تكدست في الهامش.

من تلك الأسماء التي صعدت مسلّحة بالثـقافة والإحساس والاشتغال على الموسيقى بمفهوم طربي يحترم الذائقة، وصوت يتطور في كل مرة كان (من وجهة نظري) الشاب غسان الشربتلي الذي انطلق من كوكب طلال مداح صوتا و إحساسا وعزفا فصنع بهدوء خلال السنوات الماضية جمهورا ذواقا يتوق إلى حقبة الفن الأصيل وعالم الطرب الأخاذ الذي انحرفت عنه قافلة الإنتاج الغنائي في ألفيّتنا المشوهة بأغاني المهرجانات والشكشكة والشيلات والأعمال التي تطرب مفاصل الجسد وتهمل وجدان السامع.

  بدأ غسان مشواره الفني مستمعا بوعي لطلال مداح يتشرب عُرَبَه ويدندن مواويله ويسكن في ألبوماته.. صنع تحدٍ قلما يجد من يؤازره فيه إذ كان يسهر وحيدا ليسامر طلال وأغنياته الخالدة ليصنع دون قصد منه صدى لصوت الأرض في داخله و يعيد صياغة بصمة صوت طلال بإحساسه المتجدد في أغنياته التي يحلم بإنتاجها من ماله الخاص على قناته في يوتيوب، فجاءت أعماله بجودة تضاهي أعمال النجوم وتنفرد بنقاء وذوق يتجاوز تلك التي ينتجها أعتى المؤسسات الفنية بقدراته الإبداعية التي ترتكز على قدرة مادية متواضعة.

اليوم يقوم غسان الشربتلي بإنتاج عمل ضخم يعيد المستمع إلى الزمن الجميل بأغنية لا تهدف لربح مادي أو تصويت الجماهير أو مبيعات تذاكر، بقدر ماهي حفلة مصغرة بينه وبين مستمعيه تأخذهم كآلة الزمن نحو منطقة بعيدة وخلوة طربية نقية هذه الأغنية بعنوان (عراب الحزن) ينطلق بأغنية باذخة وكأنها مارد من الموسيقى يخرج من فانوس الأصالة والجمال، وهي من كلمات الشاعر رسام وألحان غسان شربتلي.. عندما سمعتها لأول مرة قلت له تذكرني بطلال مداح، قال بكل حب وهو عاشق طلالي “أنا لا شيء أمام طلال” وأنا أراه عملاقا بفنه احترامه وتقديره وإخلاصه.

الملحن الكبير طلال باغر أثنى على أداء وتوزيع (عراب الحزن) وأكَّد تأثر الشربتلي بطلال مداح رحمه الله، وأيضا أشاد المطرب أسامة عبدالرحيم بالأغنية وقال “نفتخر بمثل هذا العمل” ويقول عنه الشاعر محمد الفريح غسان شربتلي فنان مثقف وصوت جميل وواعد بدأ مسيرته بالغناء لأساتذة الفن العربي وعلى رأسهم الأستاذ طلال مداح وتشرفت بالتعاون معه في نصين من ألحان المبدع أنور شربتلي.

الإيقاعي طلال بديري يتحدث عن الأغنية “شاء القدر أن نرى طلالي جديد في الوسط الفني فأغنية (عراب الحزن) من الأغاني الطربية الجميلة وهناك جمهور عريض متعطش لسماع هذا اللون من الأغاني التي غابت عن الساحة.

ندرك كمتلقين ذلك الهوس الذي يصيب الفنان الراكض خلف النجومية للحصول على جيش من الجماهير وهو ما ينسيه أن هويته كفنان مبدأ، لا يمكن أن يكون هلاميا أو متلونا ونحن نرى عمالقة سقطوا في فخ الأغنيات الهابطة التي شوهت مسيرتهم.

لذلك ترك غسان أمر الجمهور رهانا بينه وبين حبه لهوايته التي ستقرِّب منه من يتلذذ بالكلمة واللحن ومن يقدِّر جهده المبذول في صناعة أغنية ملهمة يدرك عمقها السامع وتحترمه وتحافظ على المسافة بين الفن والوجدان، فبالعودة إلى اللقاءات الإعلامية التي أجرتها وسائل الإعلام مع غسان شربتلي، نجدها تعرِّفنا بالفنان البسيط الإنسان الذي يتعلق كثيرا بالفن الأصيل ورموزه، وعندما ذهب للفنان القدير الموسيقار غازي علي ليتدرب على يديه قال له “أنت فنان جاهز” وقد أهداه لحنًا مميزا لإحدى قصائد أمير الشعراء أحمد شوقي أتمنى أن ترى النور قريبًا. يقول غازي علي ” غسان فنان جاهز ويملك كل المقومات من صوت جميل ونقي، صوت غسان يذكرني بطلال مداح وهو صغير”وتظهر من خلال حسابات الشربتلي في التواصل الاجتماعي علاقته الوطيدة بالملحن محمد المغيص والنجم عبادي الجوهر والرائع عبدالله طلال مداح، المنطلقة من ذلك الارتباط الوثيق بينه وبين ذوقه الرفيع الذي صنع شخصيته الفنية.

وما أعرفه عن غسان بأنه يملك مكتبة من الأعمال الجاهزة للتنفيذ، وهو يحاول أن يعطي كل عمل فرصة للاستماع والانتشار كي يتمكن خلال ذلك من الاستماع إلى استجابة الناس واستقراء ردود الفعل تجاه عمله.

لذلك من حق جمهور الفن الجميل أن يتساءلوا، هل ستعود الحالة الفنية إلى الصناعة بدلا من الاتجار، وهل سيكون للفن سدنة من المؤلفين والملحنين والمطربين، بدلا ممن جعلوه مزادا للصخب  أم ستخلو منصة الإبداع الخالد وينقرض الفن الأصيل؟


منشور في صحيفة الرياض
http://www.alriyadh.com/1773211#