منذ سنوات وأنا في الرابعة عشرة من عمري في إحدى جلساتي مع أبي لنتناقش تارة في الأدب والفن وتارة في الدين وتارة حول الثقافة العامة أنهل من خبراته المعرفية واللغوية والدينية وهو المؤسس في داخلي حس الفعل لا القول، في جلسة من تلك الجلسات أخرج لي والدي نسخة من جريدة الجزيرة وقال لي .. وأنا المبهور بالمتنبي في ذلك الوقت.. هذه آخر قصيدة للمتنبي.. فقرأت.. كانت قصيدة لرجل يدعى غازي القصيبي كان مطلعها .. بيني وبينك ألف واش يكذب.. والتي لم يسجلها التاريخ إلا لمناسبتها التي لا يغفلها منصف.. برغم اختفائها من الباعة يوم نشرت.. كان أبي يحكي لي تفاصيل الحادثة وكأنها مغامرة شيقة لا تليق إلا برجل يأتي من عالم الأسطورة مخترقا كل حواجز المعقول ليصل إلى هذا الزمن..و بقدر ما تكون صفاته فاضلة يكون هو بمثابة فاصلة في التاريخ، لم أكن أعلم حينها من يكون هذا “الغازي” ولم أكن اعرف أن حبه قد غزا الكثير ممن يفوقونني علما وخبرة وعمرا..
عندما دلفت إلى نادي جدة الأدبي لأحضر ندوة حول معالي المرحوم غازي القصيبي لم أكن أعلم أن هذه الندوة ستعيد تلك الذكريات وستعزز لدي هذه الأسطورة المجيدة، فأنا في الحقيقة لم أصدق في وقت سابق أن ثمة غازي القصيبي لأن أمثال هذا النموذج لا يتواجدون إلا في الميثولوجيا كما أتصور.
كُسِر الروتين وظهرت آلية غير تقليدية لإدارة الندوة حيث بدأت بأن تنازل الدكتور عبدالمحسن القحطاني بلباقته المعهودة للدكتور حسن النعمي ليدير بدلا عنه الندوة قائلا، لماذا أستأثر بذلك؟ شعرت منذ الوهلة هذه أن غازي بدأ ينتشر في المكان وما أن استلم الدكتور حسن النعمي الدفة حتى قال.. الأمسية هذه أنتم تديرونها لأنها أُقيمت لنسمع من كل الحاضرين عن علاقتهم بغازي فاستلم الدكتور سحمي الهاجري وانطلق ليتحدث عن موقع الرواية في أدب غازي التي اتسمت بجديتها وعمقها حيث أَعتبِره منطلق جدير بالبحث، كثير من الأسئلة دارت في ذهني وأجاب عليها الدكتور سحمي فغازي القصيبي في نظري شاعر مستقل عنه كروائي فقامت الأول تطاولها قامت الآخر فغازي القصيبي (في وجهة نظري) حالة معقدة أو كما نسميها في المسرح شخصية مركبة إنه مادة مكثفة للبحث كرجل متعدد الشخصيات. وكما يقول الدكتور سحمي:غازي شخصية متفردة توفر لها صفات ومواهب وقدرات تعد في اجتماعها في شخص واحد حدث غير عادي
وبرغم أن الشعر كان باكورة الإبداع الأدبي لغازي إلا أن الرواية كانت الجنس الأدبي الذي أشبع حاجته الناتجة عن تنوع ذاته وما يحمله في داخله من شخوص يتبادلون أخذ الادوار في انسجام تام أنا شخصيا أعتقد أنه لن يتكرر! وكما يذكر سحمي بأن غازي صنع رصيدا روائيا كبيرا كما وكيفا ليضيف للمدونة العربية المعاصرة طفرة روائية مختلفة في الشكل والمضمون خلقت لغازي الأداة التي يحتاجها المسئول المبدع ليعلن موقفه بعيدا عن أزمة الكرسي، أظن في تقديري أن هذا هو سر ظهوره بأسلوب مختلف تجاوز خطوط القانون ومحاذير النظام مبتعدا عن طقوس القرارات الرسمية والتعاميم الإدارية التي تحيط به، وألمح الدكتور سحمي إلى أن لحرب الخليج تأثير على غازي بأن دفعته للرواية لتكون الخطوة المؤثرة للسفير الشجاع، ربما كان هذا سببا، لكني أرى حالة غازي الإبداعية تحاول النهوض بموقف لايستطيع الشعر من وجهة نظري احتواؤه أو على الأقل إشباع غازي المزيج بين الأديب والإداري والسياسي والساخر والإعلامي والإنسان المتعدد. والدكتور يوسف العارف يؤكد على ذالك وزاد بأنه الظاهرة العصرية في الأدب والإدارة والسياسة حيث أسماها ظاهرة ألغاز/قصيبية ، حيث كان لغازي في كتابه “حياة في الإدارة” وجهة نظر أفرزتها خبرته وتجاربه واحتكاكه المباشر وكلنا نعلم أن غازي لم يفتن بالكرسي يوما، وأصبح كرسيه في قلوب الناس ولا يزال، وهو الموصوف بالفكر الإداري المتجدد والناضج ليصبح مدرسة للناجحين على حد وصف الدكتور العارف. كذلك أسماه عبده خال بالرجل الملثم الذي يأخذ الحق للضعيف من القوي واعتبر غيابه فقد للبطل الملثم لحاجة الناس لمثله وقال لذلك نجده يعود إلى المناصب المفصلية والتي يعجز عنها العاديون.
تساءل الروائي عبده خال في مستهل حديثه: كنت أتوقع أن تكتظ القاعة (بالبشوت) التي كانت تلاحق غازي في حياته، ولكني رأيته قد أنبت قلوبا كثيرة تهتف باسمه ما بقي الدهر.. وسيذبل (بشت) غازي. وهذه إشارة خطيرة من خال إلى أن السياسي والوزير يجد المحبة لمكانته السياسية فتزول بزوالها ولكن المبدع والأديب يجد المحبة والوفاء تتنامى لأنه مبدع وفيٌّ لجمهوره، وفي حديثه يقول بأن لهذا (المنقذ) سرديات ومغامرات يومية خصوصا إبان تقلده لوزارة الصحة فكان ينزل إلى الميدان يدخل المستشفيات ملثما ليراقب الخدمات المقدمة، كان يصدر قرارات بالعزل والإبعاد والتغيير والتحسين يتابع كل ما يتلق بوزارته، وبرغم ذلك العناء يتابع ما يكتب في الصحافة ويشجع الكتاب والمبدعين ويكتب عنهم ولا ننسى الشعبية الكبيرة التي كسبها عموده في جريدة الشرق الأوسط.
لقد استفاد غازي من رحابة الجنس الروائي لتكون ملعبا لمبادئه ومواقفه وأفكاره وتنبؤاته أيضا حيث حذَّر من الفتنة قبل وقوعها في الكتاب “الممنوع” حتى لا تكون فتنة. وسخريته (في “العصفورية” و”أبو شلاخ”) التي كانت بمثابة رثاء للحكمة المفقودة ليخترق خطوطا حمراء بلامبالاة العاقل الرشيد الواثق بما يقول. وكما يقول خال الشعر قد يليق بوزير ولكن الرواية فهي للناس وكأنه يقصد بأن الروائي المميز لا تلتقي معه البروتوكولات والبيروقراطية.
صعد أستاذي الدكتور عاصم حمدان وهو الذي قال عن غازي القصيبي بأنه دوَّن شعره بعيدا عن الأنا الممقوتة وأن “معركة بلا راية” لم يكن مجرد ديوان بل كان محددا لملامح الحركة الشعرية السعودية الحديثة فبرغم ما لاقى من تشدد وتهجم فقد قابله غازي بصدر رحب وحوار متزن ثم تحدث في نقاط مهمة وعلَّق على أخرى حيث يؤكد أنه عندما يصطدم السياسي بالمبدع فإن المبدع يتقدم وأن غازي تقدم ولم يكتف بل شجَّع الجيل الجديد الذين سيخرجون من عباءته وقد خرج الكثير وكتبوا تجاربهم ومنهم عبده خال لأن غازي وقف بالباب وفتحه، ولام الدكتور عاصم بلغة ملؤها الأسى من يتصدرون لمحاربة الرموز والمبدعين بالرسائل التي تتناقلها المنتديات الإلكترونية وعلا محياه الناصع انعكاسات حزينة وخالط صوته حشرجة وعَبرة عندما قال نحن أمة نقتل رمزونا ومبدعينا، وقال أن غازي كشاعر هو منعطف مهم للشعر السعودي كما يعده سحمي الهاجري الصدمة التي انتشلت الرواية السعودية من وضعها المتعثرز حتى أن عبده خال دافع عن مقدمة غازي لرواية “بنات الرياض” وقال لقد كتب ليشجع إنتاج جديد وليس ليطلب مجدا وراء ذلك كما شجعه في رواية “مدن لا تأكل العشب” وغيره حيث لا يُستغرب هذا من غازي الذي لا تخلوا جعبة المبدعين من رسائل خطية منه.
لم تكن التجربة الناجحة لغازي القصيبي كوزير للصحة ناجحة بالمصادفة بل أنه عندما استلم وزارة الكهرباء كان هاجسه بأن يلغي الفوانيس فأدخل النور على بيوت الناس وكان له فضل في إنشاء محطة رابغ كما يتذكر الإعلامي القدير محمد صبيحي وهو الذي رافق القصيبي لما يزيد عن عشر سنوات في عدد من الجهات كانت الإعلام وسفارة السعودية في لندن ووزارة الكهرباء.
لقد خرجت من هذه الندوة وهاتف يتلو في ذهني بصوت أجش :إذا كنت تريد رمزا في عالم الإدارة فأنت تبحث عن غازي، وإذا أردت شاعرا يشبه إلى حد كبير أبا الطيب المتنبي فأنت تقصد غازي، وإذا تمعنت قليلا وفكرت في أهم الروائيين العرب المعاصرين فإنك ستضع أول اسم بكل بداهة غازي، وإذا كنت تحلم بشخصية أسطورية مثالية فإن فارسك الملثم هو .. غازي وفجاة سمعت تواضع غازي يقول:
وإنْ مـضيتُ..فـقولي: لم يكن بَطَلاً لـكـنه لــم يـقبّل جـبهةَ الـعارِ
- ياسر مدخلي