لازلت – ككثير من المسرحيين – أعجز عن تأطير المسرح التجريبي بشكل يقنع ذاتي ، فهناك من يذهب إلى تعريف التجريب بأنه “تجاوز ما هو مطروح من الأشكال المختلفة للمسرحية من حيث الشكل أو الرؤية؛ لكي تقدم لنا فكرة متقدمة عما هو موجود بالفعل، وكلمة تجريب مرتبطة بالتحديث وهذا الربط يفصل بين الأصيل والجديد، والتجريب يخاطب مختلف التيارات الفكرية والسياسية والعقائدية”[1]
أو كما قال المسرحي الكبير ريتشارد شيكنر في افتتاح مهرجان المسرح التجريبي بالقاهرة :” إن العلم التجريبي يعتمد أساساً على طرح الفرضيات واختيارها ثم مراجعتها. أما التجريب في الفن فشيء آخر. فالتجريب الفني يتأسس على التجسيد، وتوظيف الرمز والاستعارة، واللعب على كل أوتار الخيال البشري بهدف دفع الحدود مسافة أبعد، وتوسيع الآفاق، ومساءلة العقائد القائمة وتحديها، وخلق مجتمعات من الفنانين والجماهير، قد تكون مؤقتة لكنها قوية، ولإظهار كيف يمكن للناس العبور مراراً وتكراراً، جيئة وذهاباً، بين الفعلي والمتخيل إلى ما لا نهاية، إن الفنان التجريبي حين يحيا هذا العبور الدائم، ويظل دوماً يخترق الحدود ذهاباً وعودة، يستطيع حينئذ أن يسهم في خير الإنسانية وسعادتها”.
وهناك من يدفع بالقول السائد بأن التجريب المسرحي يهدف بشكل رئيس إلى إيجاد أشكال عرض وكتابة مسرحية مختلفة عن جميع القواعد المسرحية السائدة.
كل تلك التعريفات ( مطاطة ) لاتتضمن منهجية واضحة – من وجهة نظري – مما فتح الباب للكثير ليتجرأ على المسرح مطمئنا لوجود شماعة هزيلة كهذه يعلق عليها المسخ الذي ينجبه على الخشبة.
لذلك وجب التوجه نحو العلم لان الفن العفوي لا يعيش على الصدفة التي قد يولد بها .. دعونا نقرأ هذه الأسطر التي خطها البروفيسور المسرحي أبو الحسن سلام[2] ” المسرح كائن حي يتصف بالحركة والنمو ( صفة أولى)، ويتصف بالحاجة الغريزية إلى التغذية ( صفة ثانية ) ، ويتصف بالتكاثر (صفة ثالثة) وغريزة التكاثر في المسرح وإن اتخذت مسمى آخر هو التنوع؛ تدعو إلى ابتداع أشكال جديدة . وهذا الابتداع يستلزم التجريب والتجريب يستلزم المعمل ، والمعمل يستلزم المادة والأجهزة والباحث، ثم التجربة نفسها ولاشك في أن هذه هي عناصر التجريب .”
وفي موضع آخر في نفس الدراسة يقول: ” والتجريب هو سبيل البحث عن شكل ومعنى جديدين يكونان أكثر ملاءمة وأكثر تعبيراً عن قالبنا وروحنا وأكثر كشفاً عن تيمات حياة الشعب في غالبيته العظمى ومفارقات هذه الحياة “.
مما تقدم نخلص إلى أن المسرح التجريبي نشاط مسرحي طليعي متمرد في مجتمع يتوق إلى التغيير ، كما نخلص إلى أن مادة التجريب تكون في (الكروموسومات) وهي هنا (المجتمع والنص) بحيث تعطينا ابناً (العرض) يختلف في صفاته عن أبويه وإن هذا يكون بمثابة طفل الأنابيب المسرحي”
وفي موضع ثالث: ” على ضوء ما تقدم يمكننا أن نخلص إلى أن التجريب في المسرح هو مرحلة وسط بين مسرح سابق ومسرح مأمول ، وسط بين ما كان وما سوف يكون ، أو هو بتعبير الدكتور لطفي فام “مسرح يعد لمسرح آخر أكثر استقراراً ودواماً ولكنه لن يكون دائم الاستقرار والبقاء فكل مسرح ليس سوى مرحلة في التطور المسرحي بل حياتنا نفسها حياة عابرة ورحلة انتقال هي الأخرى . فكل محاولة مسرحية هي نهاية عمل وبداية آخر في آن واحد .
ومن ثم يمكن القول بأن المسرح الكلاسيكي كان طليعة للمسرح الرومنتيكي الذي كان بدوره طليعة للمسرح الشاعري أو الرمزي وهكذا .
التجريب إذاً فترة انتقال ، بعد وقفة تأمل ، فالمسرح التجريبي يشكل فترة انتقال استثنائية ، فما أن تنتهي إلاّ وتعقبها حالة استثنائية أخرى جديدة ، حيث لا يتوقف التجريب ، كسنة من سنن الحفاظ على النوع .”
هنا وجدت هديتي الحقيقية كباحث أثخنه التجاهل وآلمه الانطواء بتجاربه المعملية وكأن فكرتي وجدت نصيرا أخيرا.. فسمعت في داخلي صوتا يدفعني ويعزز تعب السنوات و يكافئ تجاربي المضنية بتصفيقة صادقة.
فالتراكمات التي يخلفها المشتغلون في الفنون والعلوم تكون بمثابة معطيات يستخدمها الساعون نحو الإصلاح والتجديد لتحسين مستوى العلوم والآداب والفنون ليتلاءم مع المتطلبات العصرية التي تتسارع، خصوصا في هذا القرن الذي يقفز كثيرا في تطوراته التي يطاردها العطاء الإبداعي بنظرياته وتجاربه المتراكمة ليستفيد من هذه التطورات على مستوى التقنية وحتى على مستوى الاستهلاك.
ودائما ماتكون التراكمات العلمية والفنية مادة للتجريب من خلال بناء الأهداف والفرضيات والتساؤلات العلمية للوصل إلى علاقة جديدة أو شكل محدث
“ورغم أن البحث التجريبي [الذي يعتمد على التجربة العلمية] يشترك مع غيره من البحوث في كثير من جوانب خطة البحث إلا أنه ينفرد ببعض الأسس التي جعلت الباحثين يضعونه في جانب والبحوث الأخرى في جانب آخر. ويعد المنهج التجريبي[كمنهج علمي] أقرب مناهج البحوث لحل المشكلات بالطريقة العلمية”.[3]
“فهو منهج البحث الوحيد الذي يمكن أن يستخدم بحق لاختبار الفرضيات الخاصة بالعلاقات من نوع سبب ونتيجة، وفي الدراسات التجريبية يتحكم الباحث عادة في واحد أو أكثر من المتغيرات المستقلة، ويعمل على ضبط تأثير المتغيرات الأخرى ذات الصلة، ليرى تأثير كل ذلك على المتغير التابع. ومن الجدير ذكره أن إمكانية التحكم في المتغير المستقل هي الصفة الرئيسية التي تميز المنهج التجريبي عن غيره من مناهج البحث الأخرى. والمتغير المستقل، الذي يشار إليه أحياناً بالمتغير التجريبي، أو السبب، أو المعالجة، فهو تلك الفاعلية أو الخاصية التي يعتقد بأنها هي التي تقف وراء الفروق المعنوية التي تلحظ بين المجموعات”.[4]
وفي هذا المقطع أقتبس تعريفات متباينة أوردها عباس الحايك في دراسة له بعنوان المسرح السعودي بين رغبات الجمهور وغواية التجريب[5] “د.صبري حافظ في كتابه «التجريب المسرحي» أن المسرح لا يزدهر «كأي فن من الفنون الإنسانية الأخرى بغير التجريب الدائم والمستمر مع الجديد. لأن المسرح يستهدف سبر أغوار التجربة الإنسانية المتحولة، دوماً المتغيرة أبداً، والتي تنأى بطبيعتها الحية الفاعلة عن الثبات والجمود وعن الانحصار في أية قوالب محددة». وهذا ما تتفق فيه الموسوعة الإلكترونية ويكيبديا في تعريفها للمسرح التجريبي، إذ إن فكرة التجريب «تقوم في المسرح على تجاوز ما هو مطروح من الأشكال المختلفة للمسرحية من حيث الشكل أو الرؤية، لكي تقدم لنا فكرة متقدمة عما هو موجود بالفعل، وكلمة تجريب مرتبطة بالتحديث، وهذا الربط يفصل بين الأصيل والجديد. والتجريب يخاطب مختلف التيارات الفكرية والسياسية والعقائدية». ويمكن الاقتراب من معنى التجريب من كلمة المسرحي الأمريكي ريتشارد شيكنر التي ألقاها في افتتاح مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي 2009، حيث يرى أن «الأصل الاشتقاقي لكلمة «تجريبي» يعني الذهاب خارج، أو بعد الحدود. والحدود ليست مادية فقط، بل هي مادية وفكرية في الوقت نفسه، وهي تفصل بين الأمم والشعوب والأفكار. ومع أن الحدود قد تكون في الغالب ضرورية، فإن ثمة أمكنة وأزمنة يتعين فيها علينا أن نعبر هذه الحدود، أن نفكر في أمور قد لا تخطر على بال، أو أمور قد لا يصدقها عقل، وأن نمثل في عوالم الخيال ليس فقط ما يحدث الآن، بل أيضاً ما سوف يحدث مستقبلاً».
لقد ذهب الكثير من المسرحيين الأساتذة والزملاء والمجتهدين إلى تكوين صورٍ ذهنيةٍ متناقضةٍ ومتقاطعةٍ حول مفهوم المسرح التجريبي مما أربك العمل تحت مظلة هذا النوع، وتفاقمت الإشكالية بتشويهٍ خَلقي نفَّر المتلقي وصنع فجوة معه وكاد يُفقِدُ مسرحَنا ركنًا هامًّا في العملية المسرحية وهوالجمهور.
وبوقوفناعلى بعض المفاهيم التي صاغها المسرحيون نجد أن المصطلح (المسرح التجريبي) ينصُب فِخاخًا غائرة يقع في شِراكها من يؤوِّل ويفسِّر به واه متكِئًا على خبرته ودرايته، فمنه ممن يرى التجريب مرادِفًا للمحاولة، ومنهم من يدَّعي أنه يوازي التدريب، وهناك من يقول بأن التجريب خروج عن المألوف، وهناك من يؤكِّد على خلط وإعادة ترتيب عناصر العرض المسرحي.
على إثر ذلك ظهر التعدي على النص بموت المؤلف، وسطوة المخرج، وتمرُّد الممثل عليهما واعتماده متفردًا على الارتجال، وجاء السينوغراف ليقول كلمته كسيِّدٍ على العرض مؤلفًا ومخرجًا ومهملًا للممثل أكثر، فهو أقل أهمية عند البعض من الكشاف أو قطع الديكور الملونة.
كل هذه الصراعات بين الأدوار ـ وإن خَلقت لنا زخمًا كلاميًّا وزحمةً إنتاجيَّة ـ إلا أنها لم تخدم الرؤيةَ المسرحيةَ التي تناست ذلك المنتظِرَ على شُبَّاك التذاكر والمتلهفَ لفرصة يتجلى فيها مع إبداعهم، فأخذ النقد والتجريح والجدل من المسرحيين أكثر مما وجدت الخشبة، فلم يَعُد يدُبُّ عليها المبدعُ كما كان ولم تسمع موسيقاه المؤثرة، ولم تشعر بروحه المتطهرة، ولم تلمس دفء مشاعره الصادقة وكلماته الرنانة وحركاته المبهرة، وبقي الإدهاش يتيمًا ـ إن وجد ـ في بعض المسرحيات.
في الحقيقة مشكلتنا ليست اصطلاحية، ولكن المشكلة أن المسرحي في (نسخة اليوم) لا يحمل همًّا ورؤيةً ورسالةً جماهيريةً متمكِّنًا من لعبته، مبادرًا بالمسرح ليستمر نسله كجنس فني عريق وقيِّم؛ وإذا تخيلنا أن تنطق خشبة المسرح الآن فيا ترى ماذا ستقول لنا؟
[1]ويكيبيديا
[2] في دراسة بعنوان التجريب في العلم وفي الفن أبو الحسن سلام – الحوار المتمدن-العدد: 3608 – 2012 / 1 / 15 –
[3] رجاء محمود أبو علام: مناهج البحث في العلوم النفسية والتربوية، القاهرة: دار النشر للجامعات، ط3، 2001م، ص 225.
[4] عبدالرحمن عدس: أساسيات البحث التربوي، عمان: دار الفرقان، ط3، 1999م، ص 184.
[5] عباس الحايك– مجلة القافلة : المسرح السعودي بين رغبات الجمهور وغواية التجريب